عرفت عدة مناطق من المملكة خلال الأيام الماضية تساقطات مطرية مهمة، تزامنت مع انطلاق الموسم الفلاحي الجديد، وهو ما أعاد الأمل في انتعاش الزراعات الخريفية بعد سنوات من الجفاف وضعف المخزون المائي، خصوصا بعدما شملت هذه الأمطار مناطق واسعة، تفاوتت فيها الكميات المسجلة بين متوسطة وغزيرة، مما انعكس مباشرة على تحضير الأراضي وبداية عمليات الزرع.
وتُعد الزراعات الخريفية، وعلى رأسها الحبوب والقطاني والأعلاف، الركيزة الأساسية للإنتاج الزراعي الوطني، ويرتبط نجاحها بشكل كبير بتوقيت التساقطات وكمياتها، إذ أن نزول الأمطار في هذا التوقيت يوفر الظروف الملائمة لإنبات البذور وتثبيت المزروعات في مراحلها الأولى، كما يسمح بتهيئة التربة لاحتضان دورة إنتاجية جديدة.
كما تكتسي هذه التساقطات أهمية خاصة بالنسبة للمناطق البورية التي تعتمد كليا على الأمطار، حيث تتيح للفلاحين الشروع في حرث الأراضي وبذر البذور دون تأخير قد يربك سير الموسم، في حين ستخفف الأمطار الأخيرة الضغط على الموارد المائية المستعملة في الري بالنسبة للمناطق السقوية، مما يساهم في تقليص الكلفة وتحسين مردودية الاستغلاليات الفلاحية
توقعات بنمو فلاحي واعد.. فإلى أين تتجه الفلاحة المغربية وسط تقلبات المناخ وتفاوت التنمية؟
إلى جانب ذلك، توفر الأمطار الأولى من الخريف مخزونا رطوبيا للتربة ينعكس إيجابا على الأعلاف الطبيعية والمراعي، الأمر الذي يخفف من الأعباء المترتبة على تربية الماشية، خصوصا في ظل ارتفاع أسعار الأعلاف المركبة.
وفي ظل هذه البداية الواعدة، هل ستستمر التساقطات بما يكفي لضمان موسم فلاحي ناجح، أم أن الانقطاع المبكر للأمطار قد يعرض الزراعات الناشئة لمخاطر الجفاف ويحد من مردودية الموسم؟
♦أمطار تنعش الآمال وتفرض الحذر
أوضح الخبير الزراعي رياض أوحتية أن التساقطات المطرية الأخيرة شكلت جرعة أمل كبيرة للفلاحين بعد سنوات متتالية من الجفاف، لكنها لا يمكن أن تختزل وحدها مصير الموسم الفلاحي.
وبيّن رياض أوحتية في تصريح لجريدة “شفاف”، أن قيمة هذه الأمطار لا تُقاس فقط بحجمها، بل أساسا بتوقيتها وانتظامها، لأن الزراعات الخريفية، وعلى رأسها الحبوب والقطاني والزراعات العلفية، تبقى شديدة الارتباط بتسلسل زمني دقيق يحدد نجاح الموسم من فشله.
وسجّل أوحتية أن الزراعات الخريفية تدخل حاليا مرحلة حاسمة، حيث تحتاج الحبوب إلى رطوبة كافية في بداية الإنبات لضمان دورة نمو طبيعية، بينما تتأثر القطاني بشكل مباشر إذا لم تستفد من تساقطات منتظمة.
وأظهر المتحدث أن الزراعات العلفية تعتبر الأكثر حساسية نظرا لكونها تشكل ركيزة أساسية لتغذية القطيع، مما يجعل أي اختلال في الأمطار ينعكس سريعا على كلفة الإنتاج وعلى استقرار السوق.
وأظهر المتحدث أن الزراعات العلفية، فهي الأكثر حساسية نظرا لكونها تشكل ركيزة أساسية لتغذية القطيع، مما يجعل أي اختلال في الأمطار ينعكس سريعا على كلفة الإنتاج وعلى استقرار السوق.
وأشار إلى أن الأثر الفعلي للأمطار يظل رهينا بكيفية توزيعها زمنيا ومجاليا، إذ أن التساقطات القوية في فترة وجيزة قد تضر بالتربة وتؤدي إلى الانجراف، في حين أن أمطارا متوسطة ومتدرجة تمنح نتائج أفضل.
ولفت إلى أن تفاوت الاستفادة بين المناطق بات واضحا، حيث تمكنت جهات مثل دكالة وسايس من التقاط مؤشرات إيجابية، بينما ما زالت مناطق أخرى ترزح تحت تأثير الجفاف.
وهذا التباين، حسب تعبير المتحدث، يفرض دراسة مجالية دقيقة لتحديد الزراعات المناسبة لكل منطقة استنادا إلى المعطيات المناخية للسنوات الأخيرة.
♦تغيرات مناخية تعيد رسم الخريطة الزراعية
وفي السياق نفسه، شدد أوحتية على أن شجرة الزيتون تُعد من أكثر الزراعات عرضة للتأثر بالتساقطات العنيفة المصحوبة بالبرد، خاصة بعد سنوات الجفاف الطويلة التي أنهكتها واستنزفت طاقتها، وهو ما أضعف مناعتها الطبيعية.
واضاف أن العنب والنخيل بدورهما يواجهان تحديات مرتبطة بارتفاع الرطوبة وانتشار الأمراض الفطرية، وهو ما يفرض على الفلاحين مضاعفة الجهود وتحمّل أعباء إضافية للحماية والمعالجة.
وبخصوص الحبوب، أوضح أوحتية أنها تظل الزراعة الأكثر حساسية، بحكم ارتباطها المباشر بمستوى الغلة الوطنية وضمان الأمن الغذائي، مما يجعل نجاحها رهينا باستمرار التساقطات خلال فصل الخريف
أخنوش يبرئ مخطط المغرب الأخضر من تهمة “ندرة المياه”.. فأين الحقيقة؟
كما أشار الخبير الزراعي إلى أن التغير المناخي لم يعد مجرد فرضية، بل أصبح واقعا يفرض نفسه بقوة، حيث انتقلت بعض المناطق التي كانت معروفة تاريخيا بإنتاج الحبوب إلى وضع مغاير بفعل تغير مواسم التساقط.
وأبرز أن هذا التحول يفتح نقاشا عميقا حول إعادة النظر في الخريطة الزراعية، بما يسمح بنقل بعض الزراعات إلى مناطق أكثر ملاءمة مناخيا، معتبرا أن هذا الخيار يتطلب تخطيطا علميا دقيقا ودراسات معمقة تتولاها المؤسسات المختصة.
♦البحث العلمي كمدخل أساسي
وفي الإطار ذاته، يرى أوحتية على أن البحث العلمي يشكل ركيزة أساسية في مواجهة هذه التحديات، مبرزا أن التجارب الجارية لاستنباط بذور مقاومة للجفاف والتقلبات المناخية تمثل بارقة أمل للمستقبل.
وكشف الخبير أن هذه البذور ما تزال في طور الاختبار قبل طرحها في الأسواق، لكنها تعد بحلول عملية لمواسم قصيرة، إذ تتيح الاستفادة القصوى من فترات الأمطار المحدودة.
كما دعا إلى تشجيع تقنيات البذر المباشر، التي أثبتت نجاعتها في الحفاظ على رطوبة التربة وخفض تكاليف الإنتاج، مذكّرا بأن الوزارة أطلقت بالفعل برنامجا وطنيا لدعم هذه التقنية باعتبارها خيارا استراتيجيا
وخلص أوحتية إلى أن الموسم الفلاحي الحالي يقف عند مفترق طرق، حيث أن الأمطار الأخيرة رغم أهميتها لا تضمن لوحدها نجاح الزرع.
وأبرز أن الرهان الحقيقي يكمن في استمرار التساقطات وتوزيعها العادل، إضافة إلى وعي الفلاحين بأهمية اعتماد أساليب زراعية حديثة ومتأقلمة مع الظروف المناخية.
وأكد أن مستقبل الزراعات الخريفية سيظل معلّقا على عنصر المطر من جهة، وعلى سرعة تفعيل الإصلاحات والتقنيات العلمية من جهة أخرى، داعيا إلى رؤية شمولية تجعل من الفلاحة الوطنية قطاعاً قادرا على الصمود في وجه التغيرات المناخية المتسارعة.

