أظهر تقرير جديد حول كلفة اليد العاملة في قطاع صناعة السيارات لسنة 2024 تفاوتاً كبيراً بين الدول، حيث احتل المغرب المرتبة الأولى من حيث الأرخص تكلفة، إذ لا يتجاوز متوسط كلفة اليد العاملة لكل مركبة 106 دولارات أمريكية، رغم أن إنتاجه شهد ارتفاعاً بنسبة 29% مقارنة بسنة 2019.
وحسب المعطيات الصادرة عن “أوليفر وايمان” والمنشورة في إنفوغرافيك لـ”لو ديسك”، فإن رومانيا جاءت في المرتبة الثانية من حيث انخفاض التكلفة بـ273 دولاراً للسيارة، متبوعة بالمكسيك (305 دولارات)، والهند (414 دولاراً)، فيما بلغت الكلفة في الصين 597 دولاراً.
وتُظهر البيانات أن الدول الأوروبية والغربية تتكبد كلفة أعلى بكثير، إذ وصلت في فرنسا إلى 1.341 دولاراً، وفي إيطاليا إلى 2.067 دولاراً، بينما سجلت ألمانيا أعلى تكلفة بـ3.307 دولارات للسيارة الواحدة، رغم انخفاض إنتاجها بنسبة 13% مقارنة بسنة 2019.
ويكشف الرسم البياني أيضاً عن تراجع ملحوظ في وتيرة إنتاج السيارات بعدد من البلدان مقارنة بما قبل الجائحة، حيث انخفض الإنتاج في ألمانيا بنسبة 13%، وفي المملكة المتحدة بـ31%، وفي إيطاليا بـ34%، وفي فرنسا بـ36%. أما الولايات المتحدة، فسجلت انخفاضاً طفيفاً بلغ 2%.
ويُبرز التقرير التباين الكبير في القدرة التنافسية للدول، خصوصاً من حيث تكلفة اليد العاملة والإنتاجية، حيث يشكل المغرب نموذجاً تنافسياً بفضل تدني الكلفة وارتفاع وتيرة الإنتاج، في وقت تواجه فيه بعض البلدان المتقدمة تراجعاً ملحوظاً في حجم إنتاجها رغم كلفتها المرتفعة.
♦ضرورة مراجعة المنظومة الأجرية في قطاع صناعة السيارات
قال بدر الزاهر الأزرق، المحلل الاقتصادي، إن المغرب رغم ما حققه المغرب من تطور في قطاع السيارات إلا أنه مطالب اليوم بمراجعة عميقة وعاجلة للمنظومة الأجرية المعتمدة في القطاع، الذي يُعد أحد أهم أعمدة الاقتصاد الوطني وأكبر مصدر للعملة الصعبة، مبرزًا أن الوضعية الحالية في ظل الأزمة الاقتصادية والتضخم المتسارع تُحتم إعادة النظر في النماذج الاقتصادية التي بنيت في الأصل على معيار انخفاض التكلفة، والذي لم يعد يتلاءم مع السياق الاقتصادي والاجتماعي الحالي.
وأوضح المحلل الاقتصادي في تصريح لجريدة “شفاف”، أن المغرب استفاد في بداية انخراطه في سلاسل الإنتاج العالمية من انخفاض تكلفة اليد العاملة، ما مكنه من جذب استثمارات كبرى في مجال صناعة السيارات والطائرات وغيرها، حيث ساعد هذا المعطى على تعزيز موقعه التنافسي في السوق الدولية.
وأضاف المتحدث أن المغرب في البدايات، كان انخفاض الأجور يوازي انخفاضًا عامًا في تكاليف المعيشة، مما جعل الأمر مقبولًا إلى حد كبير، سواء بالنسبة للعمال أو للدولة أو حتى للمستثمرين.
وحسب الخبير، أنه بسبب موجة التضخم التي اجتاحت العالم، والتي لم يستثن منها المغرب، حيث شهدت أسعار المواد الأساسية والخدمات ارتفاعًا كبيرًا أثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للمواطنين، خاصة الفئات العاملة في القطاع الصناعي، وفي مقدمتها صناعة السيارات أثر على تلك المعطيات السابقة.
وقال الأزرق: “أصبح من الضروري اليوم إعادة النظر في منظومة الأجور، خاصة أن الفوارق باتت صارخة ليس فقط مع دول صناعية كبرى مثل ألمانيا، بل حتى مع دول قريبة جغرافيًا واقتصاديًا من المغرب، كدولة رومانيا، التي تتجاوز فيها الأجور 300 دولار لكل وحدة إنتاجية من السيارات، وهو رقم أعلى بكثير مما هو معمول به في المغرب”.
♦العدالة الاقتصادية ومسؤولية الشركات متعددة الجنسيات
أشار الأزرق إلى أن الشركات المتعددة الجنسيات العاملة في هذا القطاع على المستوى الوطني تحقق أرباحًا ضخمة، بفضل الامتيازات التي توفرها الدولة من إعفاءات ضريبية، وتكاليف تشغيل منخفضة، وبنية تحتية صناعية متطورة.
وأكد المحلل الاقتصادي في هذا السياق أن “العدالة الاقتصادية تقتضي أن تنعكس هذه الأرباح على تحسين أوضاع الطبقة العاملة، التي تشكل العمود الفقري لهذه الصناعة، من خلال الرفع من الأجور وتحسين ظروف العمل”.
وشدد الأزرق على أن المغرب إذا استمر في الرهان فقط على معيار انخفاض التكلفة كميزة تنافسية، فقد يتحول هذا المعطى من نقطة قوة إلى نقطة ضعف في المستقبل القريب، حيث أن الأسواق العالمية أصبحت أكثر وعيًا بالبعد الاجتماعي والحقوقي لسلاسل الإنتاج، وهو ما قد يؤثر سلبًا على جاذبية المملكة، ويطرح تساؤلات أخلاقية حول شروط الإنتاج، خاصة في ظل التقارير الدولية التي بدأت تتحدث عن تفاوتات كبيرة في الأجور والظروف المهنية.
♦نحو نموذج صناعي وطني جديد ومستقل
علاوة على مطلب مراجعة الأجور، دعا الأزرق إلى التفكير في نموذج تنموي صناعي جديد، يقوم على تعزيز السيادة الصناعية الوطنية، من خلال تأسيس شركات مغربية خالصة في مجال صناعة السيارات، ولا سيما في قطاع السيارات الكهربائية، الذي يشهد نموًا متسارعًا عالميًا.
وأبرز أن المغرب يتوفر حاليًا على منظومة صناعية متكاملة تضم أكثر من 200 شركة تنشط في مجال صناعة الميكانيك وصناعة أجزاء السيارات، وهو ما يشكل قاعدة قوية يمكن الانطلاق منها نحو بناء مشروع صناعي وطني متكامل.
وقال الأزرق في هذا السياق: “لم يعد مقبولًا أن يظل المغرب مجرد قاعدة صناعية للغير، يعتمد فقط على جلب الاستثمارات الأجنبية، دون أن يؤسس لعلامات تجارية وصناعات محلية قوية قادرة على المنافسة”.
واعتبر أن الاستثمار في هذا الاتجاه سيتيح فرصًا جديدة للشغل، وسيسمح بوضع منظومة أجرية أفضل، تراعي مصلحة العمال وتحفز الكفاءات الوطنية على الانخراط في هذا المشروع الطموح.
كما شدد المتحدث على ضرورة مرافقة هذا التوجه بإصلاحات مؤسساتية وتشريعية تضمن تشجيع الاستثمار الوطني، وتوفر التمويلات المناسبة، وتبني سياسة صناعية عمومية متناسقة ومتكاملة. مضيفا أن المغرب يحتاج إلى استراتيجية واضحة تجعل من الصناعة الوطنية قاطرة للتنمية، وليس فقط ورشة إنتاجية للعلامات الأجنبية”.
وأكد الأزرق أن المغرب راكم خلال العقدين الأخيرين خبرات مهمة في مجالات الصناعة واللوجستيك والتكوين المهني، مكنته من بناء منظومة صناعية حديثة تحترم المعايير الدولية، خاصة في قطاع السيارات، الذي أصبح يمثل أكثر من 25 في المائة من الصادرات الوطنية.
وشدد على أن الوقت قد حان لاستثمار هذه الخبرات في بناء صناعة وطنية مستقلة، تعزز مكانة المغرب في السوق الإفريقية والدولية، وتساهم في تحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي.
ووجه الأزرق في نهاية تصريحه دعوة إلى الحكومة والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين إلى الجلوس على طاولة الحوار، من أجل التوصل إلى اتفاق جديد يضمن تحسين أوضاع العمال في القطاع الصناعي، ويؤسس لمقاربة تنموية شاملة، تراعي العدالة الاجتماعية والنجاعة الاقتصادية معًا، معتبرا أن مستقبل الصناعة المغربية يمر بالضرورة عبر إنصاف اليد العاملة، وتحرير الطاقات الوطنية نحو الإبداع والإنتاج المستقل.

