لقيت امرأتان حتفهما وأصيبت ثماني عشرة أخريات بجروح متفاوتة الخطورة، في حادث انقلاب وسيلة نقل غير صالحة للاستعمال البشري بمنطقة اشتوكة آيت باها نهاية الأسبوع الماضي، أثناء توجههن للعمل في ضيعة فلاحية.
وكشف هذا الحادث مجدداً هشاشة ظروف نقل العاملات الزراعيات، حيث ما تزال شاحنات مخصصة للبضائع تستعمل كوسيلة رئيسية لنقلهن، بما يشكل تهديداً مباشراً لسلامتهن الجسدية وكرامتهن الإنسانية.
انقلاب “بيكوب” بالفقيه بن صالح يصيب 13 عاملة زراعية ويثير انتقادات حقوقية
وعليه، كيف يمكن معالجة ملف نقل العاملات الزراعيات بما يضمن لهن شروط السلامة والكرامة، بعيداً عن منطق الحلول الترقيعية؟
♦مسؤوليات قانونية مغيّبة
شدّد محمد رشيد الشريعي، رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بالمغرب، على أنّ الحوادث المأساوية المرتبطة بوسائل نقل العاملات والعمال تكشف عن غياب المراقبة الفعلية وانعدام احترام الشروط القانونية الأساسية التي يفرضها كل من قانون الشغل والاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف المغرب.
وأوضح رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الانسان في المغرب في تصريح لجريدة “شفاف”، أنّ ما يقع في المزارع والمعامل لا يمكن فصله عن “جشع الباطرونا” واستغلالها حاجة العمال للعمل مقابل التخلي عن أبسط معايير السلامة والكرامة.
وفيات العاملات الفلاحيات بحوادث السير.. جمعية حقوقية تحمل الحكومة والبرلمان المسؤولية
وانتقد الشريعي تقاعس مفتشي الشغل الذين ينص القانون بوضوح على مسؤوليتهم في المراقبة الدورية للمؤسسات وظروف العمل، مشيراً إلى أنّ دورهم يجب أن يشمل أيضاً معاينة وسائل النقل والتأكد من مطابقتها لشروط السلامة، وهو ما لا يتم تطبيقه على أرض الواقع.
وأبرز الفاعل الحقوقي أنّ الأمن والدرك يتحمّلان مسؤولية موازية، لكون الشاحنات والحافلات المتهالكة التي تقل العمال تمر وسط المدن والطرقات دون احترام للمعايير التقنية، ومع ذلك تستمر في العمل دون حجز أو متابعات قانونية، مما يضاعف احتمالات وقوع حوادث دامية.
ولفت إلى أنّ غياب الصرامة في التنزيل العملي للقوانين يجعلها مجرّد “حبر على ورق”، لتتحوّل حياة العمال والعاملات إلى وقود لأرباح أرباب العمل.
♦واقع مأساوي متكرر
كشف الشريعي أنّ الحوادث القاتلة التي تتكرر في عدد من مناطق المغرب، من آسفي إلى القنيطرة وسيدي سليمان وغيرها، ترتبط أساساً بانعدام مراقبة حقيقية وباستعمال وسائل نقل تفتقر لأبسط شروط الأمان.
رابطة حقوق النساء تنعي العاملة المغربية التي توفيت بإسبانيا وتستنكر توجه العاملات للشغل يوم فاتح ماي
وأكد أنّ التحقيقات التي تُفتح بعد كل حادث تكشف في الغالب أنّ السبب المباشر هو اهتراء الشاحنات أو غياب الفراميل أو سوء ظروف النقل، غير أنّ المسؤولية لا تتوقف عند السائق بل تمتد إلى المؤسسات التي يفترض أن تراقب وتمنع تكرار هذه المآسي.
وأضاف أنّ الخلل يتجاوز ملف النقل ليشمل ظروف العمل داخل الوحدات الإنتاجية نفسها، حيث يتم تشغيل العمال بأجور زهيدة لا تتجاوز أحياناً 1400 درهم في الشهر، مع استغلال واضح للهشاشة الاجتماعية وغياب بدائل اقتصادية.
وأشار إلى أنّ هذه الوضعية تشمل حتى بعض المؤسسات العمومية عبر أنظمة المناولة التي تحرم عمال الحراسة والنظافة من أبسط الحقوق، لتبقى صورة الاستغلال متكررة سواء في القطاع الخاص أو العام.
ولم يخف الشريعي أنّ ضعف وغياب المراقبة من طرف مفتشيات الشغل والضمان الاجتماعي يشكلان صلب الأزمة، إذ غالباً ما يتم التصريح بعدد أقل من العمال أو التلاعب بساعات العمل والأجور، دون أن تقوم الجهات المختصة بفرض الجزاءات الرادعة التي ينص عليها القانون.
واعتبر أنّ العمال، أمام فقر مدقع وضغط متطلبات الحياة اليومية، يرضخون للواقع بدل المطالبة بحقوقهم، مما يمنح الباطرونا فرصة للاستمرار في خرق القوانين.
هيئة حقوقية مغربية تطالب بفتح تحقيق في واقعة وفاة عاملة موسمية وجرح العشرات بإسبانيا
♦دعوة لإجراءات صارمة
طالب الشريعي بضرورة خروج وزارة الشغل من “سباتها العميق” وتفعيل آليات المراقبة والردع بشكل صارم، سواء عبر الإنذارات أو عبر الحجز المباشر لوسائل النقل غير الصالحة للاستعمال.
وأكد أنّ الأمر لا يتعلق فقط بمدونة الشغل بل أيضاً باتفاقيات دولية تفرض على المغرب ضمان كرامة وسلامة العمال، وهو التزام أخلاقي وصورة للبلاد أمام المجتمع الدولي.
وشدّد على أنّ مواجهة هذه المعضلة تتطلب تفعيل حقيقي للقانون، بدءاً من زيارات مفتشي الشغل للمزارع والمعامل، مروراً بمراقبة دقيقة لوسائل النقل، وصولاً إلى فرض ضرائب وضغوط اقتصادية على المستثمرين الذين يرفضون احترام حقوق الأجراء.
وأشار إلى أنّ العائلات المكلومة التي تفقد ذويها في هذه الحوادث غالباً لا تتلقى أي تعويض، مما يضاعف حجم المأساة الاجتماعية والإنسانية.
وخذر الشريعي من أنّ استمرار الحوادث يعكس خللاً بنيوياً خطيراً لا يمكن معالجته بالشعارات، بل يتطلب إرادة سياسية لتطبيق القوانين وإيقاف استهتار أرباب العمل بمصير آلاف العمال والعاملات.
وخلص إلى أنّ المسؤولية مشتركة بين الباطرونا والسلطات العمومية ومفتشيات الشغل والأمن والدرك، وأنّ التهاون في مراقبة هذا القطاع لن يؤدي إلا إلى مآسٍ جديدة تحصد أرواح الأبرياء بشكل متكرر.
وزارة الفلاحة فوق فوهة بركان.. لماذا تحتج الشغيلة الفلاحية وإلى أين يقود التصعيد؟

