أثار غياب عدد من البرلمانيين عن الجلسات التشريعية المخصصة لمناقشة مشروع قانون الإضراب جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والمجتمعية بالمغرب.
ويأتي هذا الغياب في وقت يُنتظر فيه من المؤسسة التشريعية الحسم في واحد من أبرز النصوص القانونية المرتبطة بتأطير الحق في الإضراب، والذي يُعتبر موضوعاً حيوياً لتوازن علاقات الشغل وتحقيق الاستقرار الاجتماعي.
وتُعزى أهمية الحضور البرلماني في هذا النقاش إلى حساسية المشروع الذي يُفترض أن يُسهم في تنظيم الإضرابات وضمان ممارستها بطريقة تحمي حقوق الشغيلة وأرباب العمل على حد سواء.
ومع ذلك، يُلاحظ تراجع التزام العديد من البرلمانيين في حضور الجلسات، مما يثير تساؤلات حول جدية التفاعل مع قضايا تؤثر مباشرة على المواطن المغربي.
♦غياب الالتزام
أكد الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي إدريس قصوري، أن أزمة البرلمان المغربي، المتمثلة في غياب النواب وتراجع أدائهم التمثيلي، ليست مجرد تفصيل بسيط، بل تعكس اختلالات جوهرية تهدد الديمقراطية البرلمانية في البلاد.
وفي تصريحه لجريدة “شفاف”، أوضح قصوري أن الحضور أو عدمه داخل البرلمان ليس مسألة شكلية، بل يعكس مدى الالتزام بأداء الواجب التمثيلي الذي يعد محورياً في تجويد النقاشات التشريعية وتحقيق تطلعات المواطنين.
وأشار قصوري إلى أن هناك ميلًا واضحًا في البرلمان المغربي للاعتماد على أقلية من الحضور لتمرير القوانين، استنادًا إلى حسابات سياسية ضيقة تتجاهل النقاش الديمقراطي الحقيقي.
وهذا التوجه، وفق المتحدث، يؤدي إلى ضعف النقاش والتفاعل حول القضايا الأساسية، خاصة تلك التي تمس المصالح الاجتماعية والاقتصادية لفئات عريضة من المجتمع.
وبين قصوري، أن الغرفة الثانية بالبرلمان، التي تمثل المصالح الاجتماعية والمهنية، يتم فيها تمرير قوانين ذات طابع تخدم مصالح فئات محددة، دون الالتفات إلى مبدأ التعددية أو الإنصات لكافة الأطراف.
وأضاف أن الأزمة ليست فقط في غياب النواب عن الجلسات، بل تتعلق بغياب الروح التمثيلية الحقيقية. إذ البرلمان أصبح يعتمد على الأغلبية التقنية لتمرير القوانين، متجاهلًا النقاش الموضوعي الضروري.
وتابع قصوري قائلا: “إن هذا السلوك يضرب أسس الديمقراطية البرلمانية في البلاد، ويفرض رؤية سياسية أحادية تخدم مصالح “الباطرونة”، وتقصي الفئات الأكثر هشاشة.”
♦مخالفة التوجيهات الملكية
على صعيد آخر، أشار قصوري إلى أن رسالة الملك محمد السادس التي ركزت على تخليق العمل البرلماني ومأسسة الحضور الفعال لم تجد صدى ملموساً لدى البرلمانيين.
وسجل المحلل السياسي، على أن البرلمانيين بعد الرسالة الملكية زاد غيابهم المستمر، وتم التراجع عن الالتزامات الأخلاقية والدستورية، مبينا أن هذا الوضع يمثل تحدياً كبيراً لمكانة البرلمان كهيئة تمثيلية.
ويرى قصوري أن هذا الوضع يعكس تجاهلًا صريحًا للتوجيهات الملكية وميثاق التخليق، مما يزيد من أزمة الثقة بين المواطنين والمؤسسات السياسية.
وفي سياق متصل، أوضح المحلل السياسي أن غياب النقاش الجاد وتسوية القضايا بطرق سطحية وغير ديمقراطية يؤديان إلى نتائج كارثية على النظام الديمقراطي ككل.
♦معارضة شكلية
كما انتقد الأستاذ الجامعي، المعارضة، معتبرا إياها أنها لم تعد تلعب دورها الكامل في مواجهة الأغلبية، إذ أن بعض أعضائها يصوتون لصالح الأغلبية مثلما حدث في قانون الإضراب حيث قام حزب الحركة الشعبية بالتصويت لصالح الأغلبية، مما يضرب فكرة التوازن السياسي.
وشدد على أن هذا التداخل بين الأغلبية والمعارضة يعكس توافقات سياسية فوقية لا تخدم المصلحة العامة، بل تُكرس مصالح ضيقة على حساب المواطن.
وأكد قصوري أن التعددية السياسية، التي تعتبر من ركائز النظام المغربي، أصبحت تواجه تهديداً خطيراً بفعل هذه الممارسات. قائلا: أن هذا الوضع ينذر بفقدان الثقة في العمل السياسي والمؤسساتي، مما قد يؤدي إلى عزوف أكبر عن المشاركة السياسية خصوصا في صفوف الشباب.
وأضاف المحلل السياسي، إلى أن التراجع في الأداء السياسي والمؤسساتي دفع العديد من المراقبين إلى التساؤل عن مستقبل العمل السياسي في المغرب، حيث أصبحت السياسة نفسها في خطر.
وتحدث قصوري في تصريحه للجريدة عن الإشكاليات التي تواجه البرلمان المغربي، حيث أوضح أن الدستور المغربي ينص على استقلالية المؤسسات وتوازنها، لكن الواقع يعكس تداخلًا واضحًا في الأدوار بين الحكومة والبرلمان والقضاء. مشيرا إلى أن البرلمان يبدو وكأنه مجرد أداة تصفق للحكومة بدلاً من أن يكون مؤسسة حقيقية للتشريع والمساءلة.
♦غياب الكفاءة
أما على مستوى الكفاءات، فقد أوضح قصوري أن نوعية البرلمانيين اليوم تثير تساؤلات عديدة، حيث تراجعت معايير اختيار ممثلي الشعب من حيث الكفاءة والخبرة والتكوين وحتى التاريخ السياسي.
وهذا التراجع، وفق المتحدث، أثر على قدرة البرلمان وأداء أدواره بشكل فعال. مشيرا إلى أن المعارضة، التي كان يُفترض أن تشكل توازناً داخل العمل السياسي، أصبحت ضعيفة وشكلية، ولم تعد تؤدي دورها الحيوي في خلق ديناميكية سياسية صحية.
وشدد قصوري على أن غياب الخلفية الثقافية والتاريخية لدى العديد من البرلمانيين والسياسيين يمثل مشكلة جوهرية. قائلا: “من لا يعرف تاريخ بلاده لا يمكنه الدفاع عن قضاياها أو تمثيلها بشكل لائق على المستوى الدولي.. ومؤكدا أن هذا ينعكس سلباً على القضايا الوطنية الكبرى، مثل قضية الصحراء المغربية.”
واختتم قصوري تصريحه بالتأكيد على أن إعادة الاعتبار للعمل البرلماني يتطلب إصلاحًا شاملاً يشمل تحسين معايير اختيار الممثلين، وتفعيل أدوار المؤسسات، وضمان استقلاليتها.
وأوضح أن البرلمان يجب أن يكون فضاءً للنقاش الجاد والمساءلة، وليس مجرد أداة تصديق لقرارات الحكومة. مشددا على ضرورة احترام الدستور ومبادئ العمل المؤسساتي، حيث يعد أمر لا يمكن التنازل عنه إذا كان المغرب يسعى لبناء مستقبل سياسي أفضل.