يشهد قطاع صناعة السيارات في المغرب تطورًا لافتًا خلال السنوات الأخيرة، ما جعله يحتل موقعًا رياديًا على المستويين الإفريقي والدولي من حيث الإنتاج والتصدير.
ويعكس هذا النمو نتائج استراتيجية صناعية ارتكزت على مجموعة من العوامل المحفزة، من أبرزها الموقع الجغرافي القريب من الأسواق الأوروبية، وتنافسية كلفة الإنتاج، إضافة إلى تحسن مناخ الأعمال وتوفر بنية تحتية ملائمة.
وهذا التوسع الإنتاجي والتجاري وضع المغرب في صدارة الدول الإفريقية في هذا المجال، مع آفاق مفتوحة نحو التموقع في سلاسل القيمة العالمية، خصوصًا في قطاع السيارات الكهربائية.
وبالنظر إلى سرعة التحولات الصناعية والرهانات الاجتماعية المرتبطة بها، يظل السؤال مطروحًا حول إمكانية هذا النموذج في الاستمرار وتحقيق التوازن بين الجاذبية الاستثمارية والعدالة الاجتماعية؟
♦المغرب كمنصة صناعية رائدة في صناعة السيارات
قال الصحفي والمحلل الاقتصادي المغربي المقيم بقطر، محمد أفزاز، إن المغرب نجح خلال السنوات الأخيرة في تحقيق قفزة نوعية في قطاع صناعة السيارات، بفضل منظومة متكاملة من العوامل المحفزة التي جعلت المملكة من بين أهم المنصات التصديرية في القارة الإفريقية، بل وعلى المستوى العالمي.
وأوضح أفزاز في تصريح لجريدة “شفاف”، أن هذه الطفرة لم تكن وليدة الصدفة، بل جاءت نتيجة استراتيجية صناعية واضحة، تعتمد على رخص اليد العاملة، والقرب الجغرافي من الأسواق الأوروبية، إلى جانب تحسن البيئة التشريعية والاستقرار الاقتصادي ومناخ الأعمال الجاذب، وهي عناصر جعلت من المغرب مركزًا صناعيًا مفضلاً للعديد من كبريات الشركات العالمية العاملة في هذا القطاع.
وأشار المتحدث إلى أن المغرب أصبح حاليًا أكبر مصدر للسيارات في إفريقيا، متفوقًا على جنوب إفريقيا، بإنتاج يفوق 700 ألف وحدة سنويًا، مع تطلع لبلوغ سقف مليون سيارة في المستقبل القريب.
واعتبر أن هذا الإنجاز يعكس فعالية الاستراتيجية الصناعية المغربية، ويُظهر مدى التقدم الذي أحرزته المملكة في بناء منظومة صناعية متكاملة.
♦الأثر الاقتصادي والاجتماعي لصناعة السيارات
وأكد المحلل الاقتصادي أن صادرات المغرب من السيارات بلغت حاليًا حوالي 15 مليار دولار، في حين تتجه التقديرات إلى إمكانية بلوغ 20 مليار دولار خلال السنتين أو الثلاث سنوات المقبلة، في حال استمرت وتيرة النمو الحالية.
وبيّن أفزاز أن هناك تقديرات مستقبلية تفيد بإمكانية وصول القيمة الإجمالية للقطاع إلى 90 مليار دولار في الأمد الطويل، إلا أن هذا الرقم يبقى مرتبطًا بتوسيع البنية الصناعية بشكل كبير وجذب استثمارات ضخمة في سلاسل القيمة المضافة، خصوصًا في مجال السيارات الكهربائية وتصنيع البطاريات.
وتابع أفزاز موضحًا أن رخص اليد العاملة لا تُعد فقط أداة لتعزيز تنافسية الصادرات المغربية، بل تمثل أيضًا عاملًا جوهريًا في استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، إذ يرى المستثمرون في انخفاض تكلفة اليد العاملة فرصة لزيادة هامش الأرباح وتعزيز مرونة الإنتاج.
وأبان أن رخص اليد العاملة أسهم في ارتفاع نسبة الإدماج المحلي في صناعة السيارات إلى حوالي 69%، مما يدفع المقاولات المحلية إلى الاندماج بشكل أكبر في سلاسل الإنتاج العالمية.
وأوضح أن القطاع يوفر حاليًا فرص عمل لأكثر من 230 ألف عامل، وتشتغل فيه أكثر من 260 شركة، معظمها شركات أجنبية تنشط ضمن سلاسل التوريد العالمية، وهو ما ينعكس إيجابيًا على سوق الشغل، ويُسهم في التخفيف من حدة البطالة، خصوصًا في صفوف الشباب.
كما أبرز أفزاز أن قطاع السيارات بات اليوم أول قطاع صناعي مصدر في المملكة، وثاني مصدر للعملة الصعبة بعد تحويلات الجالية المغربية، متقدمًا على السياحة. وتُساهم مداخيله التي بلغت 15 مليار دولار في تعزيز ميزان الأداءات، وتقوية قيمة الدرهم المغربي، وتوفير احتياطات مهمة من العملة الصعبة، ما يُمكّن المملكة من تأمين وارداتها الخارجية بأريحية أكبر.
وفي سياق التوجهات المستقبلية، أشار أفزاز إلى أن المغرب يطمح إلى لعب دور محوري في التحول الطاقي العالمي، عبر التموقع كمركز إقليمي لإنتاج السيارات الكهربائية ومكوناتها، لاسيما بعد دخول رؤوس أموال صينية مهمة إلى هذا المجال.
وأوضح أن هذا التوجه من شأنه أن يُعزز الموقع التنافسي للمغرب، سواء داخل القارة الإفريقية أو في الأسواق الدولية، شرط توفر الكفاءات اللازمة ومواكبة التطور التكنولوجي المتسارع.
♦التحديات المستقبلية ومتطلبات العدالة الاجتماعية
ورغم هذه الإنجازات، شدد أفزاز على ضرورة عدم إغفال التحديات البنيوية، وفي مقدمتها ما وصفه بـ”الفجوة الاجتماعية”، الناتجة عن ضعف الأجور في عدد من القطاعات الريادية، وعلى رأسها صناعة السيارات.
وقال: “صحيح أن رخص اليد العاملة ميزة تنافسية، لكنها لا يجب أن تتحول إلى عامل تقويض للعدالة الاجتماعية أو عائق أمام تحسين القدرة الشرائية للمواطنين”.
وأوضح أن رفع الأجور في قطاعات مثل السيارات والطيران والتكنولوجيا أصبح أمرًا ضروريًا، ليس فقط لتحسين ظروف عيش العاملين، بل أيضًا من أجل تحفيز الاستهلاك الداخلي، وتشجيع الابتكار والاستثمار في التعليم والتكوين المهني، بهدف إعداد رأسمال بشري قادر على مواكبة التحولات الصناعية والتقنية المستقبلية.
وأنهى محمد أفزاز تصريحه بالتأكيد على أن المغرب لا يشتغل في فراغ، بل يواجه منافسة دولية شرسة من قِبل بلدان نامية ومتقدمة تسعى بدورها إلى جذب الاستثمارات الصناعية وتطوير قدراتها التصديرية.
ودعا في هذا الصدد إلى ضخ استثمارات إضافية في التعليم العالي والتكوين المستمر، من أجل ضمان بقاء اليد العاملة المغربية في موقع الريادة، وتلبية متطلبات الصناعات الحديثة، وعلى رأسها صناعة السيارات الكهربائية والمكونات الذكية المرتبطة بها.

