يشير التقرير الاستراتيجي لسوق الشغل المغربي لعام 2025 ،الصادر عن المركز الافريقي للدراسات الإستراتيجية والرقمنة إلى أن سوق العمل يمر بمرحلة حرجة تتسم بتقاطع فرص واعدة مع مخاطر بنيوية عميقة، إذ يحتفي الاقتصاد بالنجاحات القطاعية، لا سيما في صناعة السيارات، ويتحرك بخطى نشطة استعدادا لاستضافة فعاليات كأس العالم 2030، لكنه في الوقت نفسه يظل رهين الاعتماد المفرط على السوق الأوروبية وعلى أحداث ظرفية، ما يضع آلاف العمال أمام احتمالات عدم استقرار واضحة، إذ قد تتلاشى الوظائف المؤقتة بعد الحدث الكبير، تاركة العمال دون حماية أو بدائل واضحة.
ويكشف التقرير عن أن البطالة الهيكلية تصل إلى 13.3% على المستوى الوطني، فيما تبلغ نسبتها بين الشباب 37% وبين النساء 20%، ما يعكس صعوبات بنيوية عميقة في إدماج هذه الفئات في سوق العمل.
ويؤكد التقرير أن معدل النشاط الاقتصادي لا يتجاوز 43%، مع مشاركة نسائية تقل عن 18%، ما يعكس وجود طاقات بشرية ضخمة غير مستغلة.
ويبرز التقرير أن ثلثي العاملين في المغرب يعملون في القطاع غير المهيكل، ما يحرم ملايين المواطنين من العمل اللائق والحماية الاجتماعية، في حين تتركز الفرص الجيدة في المدن الساحلية، مما يزيد الفوارق الجغرافية ويحفز الهجرة الداخلية ويزيد الضغط على البنى التحتية للمدن الكبرى.
ويشدد التقرير أن النموذج الاقتصادي الحالي هش بشكل واضح، مشيرا إلى أن صناعة السيارات، على الرغم من كونها قصة نجاح وطنية، تعتمد بنسبة أكثر من 80% على السوق الأوروبية، خصوصا فرنسا وإسبانيا، ما يجعل هذا القطاع الحيوي عرضة لتغير السياسات الأوروبية المتعلقة بـ “إعادة التصنيع”، والتحول نحو السيارات الكهربائية، وتطبيق ضريبة الكربون الأوروبية.
ويحذر التقرير من أن قطاع الخدمات والسياحة يعتمد اعتماداً شبه كامل على السوق الفرنسية، وأن القانون الفرنسي الجديد الذي سيدخل حيز التنفيذ في 2026 سيؤثر بشكل مباشر على آلاف وظائف مراكز الاتصال.
أما فيما يتعلق بكأس العالم 2030، فيشير التقرير إلى أن الوظائف التي ستخلق في البناء والسياحة مؤقتة بطبيعتها، وأن غياب التخطيط لما بعد الحدث قد يؤدي إلى بطالة حادة بين العمال، مما يطرح تحديات حقيقية على الاستدامة الاقتصادية.
ويحلل التقرير التحولات المستقبلية التي ستعيد تشكيل سوق العمل بشكل جذري، مسلطاً الضوء على أن الذكاء الاصطناعي والروبوتات سيؤديان إلى أتمتة الوظائف الروتينية والإدارية، مع خلق طلب متزايد على مهارات جديدة تشمل الإبداع والتفكير النقدي والتقنيات الحديثة.
ويحذر التقرير من “فجوة مهاراتية” محتملة بين العمال المتوفرين والمتطلبات الجديدة لسوق العمل، كما يشير إلى أن التغير المناخي يهدد قطاعات حيوية مثل الفلاحة والسياحة، لكنه يفتح في الوقت نفسه فرصاً واسعة في الاقتصاد الأخضر، من شأنها خلق نحو نصف مليون وظيفة على المدى الطويل.
ويضيف التقرير أن التحولات في أنماط العمل، بما في ذلك العمل الحر واقتصاد المهام، تفرض تحديات جديدة على الحماية الاجتماعية والأمان الوظيفي للعمال.
ويبرز التقرير أن العلاقة بين العامل وصاحب العمل تتغير جذريا، إذ يشهد سوق العمل تراجع نموذج “الوظيفة القارة” التقليدية، ويتحول دور المدير من الرقابة إلى التمكين والدعم، مع التركيز على تحقيق التوازن بين الحياة المهنية والشخصية.
ويلفت التقرير إلى أن زيادة الإنتاجية نتيجة الأتمتة قد تفتح النقاش حول اعتماد أسبوع العمل من أربعة أيام والدخل الأساسي الشامل كشبكة أمان للعمال في ظل انخفاض الطلب على العمل البشري، ما يتطلب استشراف سياسات اجتماعية جديدة.
وينبه التقرير إلى أن الحركة النقابية تواجه أزمة تمثيل حادة، إذ لا تتجاوز نسبة الانخراط ثلاثة في المئة، فيما يترك صعود العمل المستقل أغلبية العمال خارج أي إطار نقابي. ويؤكد التقرير على ضرورة تجديد النقابات لتشمل العمال المستقلين، وجعل الحقوق الرقمية جزءا من الأولويات، بما في ذلك الانفصال الرقمي وحماية البيانات، إضافة إلى تعزيز شفافية الخوارزميات والحق في التكوين المستمر لضمان قدرة النقابات على البقاء فاعلة في سياق التحولات الاقتصادية والتكنولوجية.
ويختتم التقرير بتقديم توصيات استراتيجية شاملة على ثلاثة مستويات زمنية، حيث يقترح على المدى القصير من سنة إلى ثلاث سنوات إطلاق خطة استباقية لما بعد 2030، وتنويع الأسواق وتقليل الاعتماد على السوق الأوروبية، وإنشاء صندوق لإعادة تأهيل عمال مراكز الاتصال، ووضع إطار قانوني لحماية عمال المنصات. وعلى المدى المتوسط من أربع إلى عشر سنوات.
ويوصي التقرير بإصلاح شامل لقانون الشغل، وثورة في التكوين المهني والتعليم، ودعم التصنيع المحلي للمكونات الاستراتيجية، وتشجيع الابتكار النقابي.
أما على المدى الطويل، فيتضمن التقرير تجريب نماذج الدخل الأساسي، واستكشاف أسبوع العمل من أربعة أيام، وبناء منظومة وطنية للتعلم مدى الحياة لضمان تطوير رأس المال البشري واستدامة المهارات الوطنية.
ويخلص التقرير إلى أن المغرب أمام خيارين حاسمين: إما الاستمرار في نموذج هش يعتمد على الخارج والأحداث المؤقتة، أو بناء نموذج اقتصادي متنوع ومستدام يعزز رأس المال البشري ويضع عقداً اجتماعياً جديدا يحمي العامل ويقود التنمية المستدامة، مشيرا إلى أن الانتقال من إدارة الأزمات إلى صناعة المستقبل يتطلب شجاعة سياسية ورؤية استراتيجية وحوارا مجتمعيا حقيقيا.

