شهد القطاع الفلاحي بالمغرب انتعاشة قوية خلال الموسم الفلاحي 2024-2025، بعد سنوات من التراجع المرتبط بالجفاف وتقلبات المناخ، حيث أعلنت وزارة الفلاحة عن تسجيل نمو متوقع بنسبة 5.1 %، مقارنة بناقص 4,8 % خلال الموسم السابق، وأرجعت الوزارة هذا التحول إلى التساقطات المطرية المهمة التي عرفتها البلاد خلال شهري مارس وأبريل، ما ساهم في تحسين أداء الزراعات الخريفية، ورفع المحصول المتوقع من الحبوب إلى حوالي 44 مليون قنطار، بنسبة زيادة ناهزت 41 % عن السنة الماضية.
ورغم هذا الأداء اللافت، يظل هذا الانتعاش مرهونًا بمدى ديمومته، خصوصًا في ظل استمرار اعتماد المنظومة الفلاحية الوطنية على التساقطات كمحدد رئيسي للنتائج، ما يطرح تساؤلات حول إن كان هذا النمو يشكل مؤشرا على تحول بنيوي في تدبير الإنتاج الفلاحي، ومدى القدرة على التأقلم مع التغيرات المناخية على المدى البعيد، وأسباب تركز الإنتاج في ثلاث جهات رئيسية؛ -ألا وهي جهة فاس-مكناس بـ36 %، وجهة الرباط-سلا-القنيطرة بـ28 %، وجهة طنجة-تطوان-الحسيمة بـ16 %-؛ تساؤلات حول العدالة المجالية، وجدوى السياسات الفلاحية في ضمان تنمية شاملة ومتوازنة تروم تقليص الفوارق وتعزيز الأمن الغذائي الوطني.
♦ مناخ متقلب
يشير حميد الصالحي، الخبير والمستشار الفلاحي، ورئيس جمعية التنوير الفلاحي، أنه خلال السنوات السبع الأخيرة، عاش المغرب تقلبات مناخية حادة أثّرت بشكل مباشر على القطاع الفلاحي، مخلفة نتائج متباينة على مردودية الإنتاج الفلاحي، خاصة في صفوف الفلاحين الذين ما زالوا يعتمدون على الوسائل التقليدية.
وأبرز الصالحي في تصريح لجريدة “شفاف”، أنه بين فترات الجفاف الممتدة، وارتفاع درجات الحرارة غير المعتادة، وهبوب الرياح الشرقية، بدأت الفصول تتغير بوتيرة غير مألوفة، ما أربك مواعيد الزرع والحصاد.
وأضاف أن الموسم الفلاحي الحالي عرف مفاجأة غير متوقعة تمثلت في أمطار ربيعية وافرة تزامنت مع شهر رمضان، خصوصًا في المناطق الشمالية، ما أدى إلى انتعاش غير مسبوق للمزروعات، وخاصة في جهة فاس-مكناس.
ولفت الخبير والمستشار الفلاحي إلى أن هذه التساقطات ساعدت بشكل كبير في رفع إنتاجية الفلاحين الذين تبنوا تقنيات زراعية متطورة، بينما بقي الآخرون في مستوى إنتاجي ضعيف نسبيا؛ نتيجة اعتمادهم على طرق تقليدية.
♦ تفاوت في الاستفادة
يوضح الصالحي أن هذه الظرفية تكشف عن مفارقة واضحة، حيث إن الفلاحين الذين استثمروا في تقنيات حديثة مثل الحبوب الهجينة، والأسمدة المركبة، والحرث المباشر، حققوا إنتاجات فاقت التوقعات.
وأبرز الخبير والمستشار الفلاحي، أنه في المقابل، بقيت الإنتاجية محدودة عند من اعتمدوا على الطرق التقليدية والبسيطة، خاصة في زراعة الحبوب والقطاني.
وتابع أنه فيما يتعلق بالأشجار المثمرة، خاصة الزيتون، فقد أدّت التساقطات الأخيرة إلى تحسين وضعيتها بشكل واضح، حيث يصعب اليوم التفريق بين الأشجار المسقية وتلك المعتمدة على التساقطات المطرية، بفضل مستوى الإزهار والتوريق المرتفع.
♦ إشكاليات الري
يبرز الصالحي أنه رغم الجهود المبذولة في إطار المخططات الوطنية للري، لا يزال الاعتماد على الأمطار يشكل عصب الإنتاج الفلاحي في المغرب، ما يكشف عن إشكالية هيكلية في البنية التحتية للقطاع.
أخنوش يبرئ مخطط المغرب الأخضر من تهمة “ندرة المياه”.. فأين الحقيقة؟
وأردف أنه على الرغم من ارتفاع نسبة الأراضي المسقية إلى 54%، يظل الحفر العشوائي للآبار صعبًا ومكلفًا، إذ يتطلب الوصول إلى المياه أحيانًا الحفر لعمق يصل إلى 250 مترًا، بتكاليف باهظة تفوق 20 مليون سنتيم.
وأوضح عن هذا الأمر؛ يدفع العديد من الفلاحين الصغار إلى مواصلة الاعتماد على الأمطار، في ظل غياب دعم فعّال لتحفيز الاستثمار في تقنيات السقي الحديثة، خاصة لدى صغار المنتجين.
♦ فوارق مجالية حادة
يشدد الصالحي على أن الإنتاج الفلاحي لا يزال متمركزًا في ثلاث جهات رئيسية؛ وهي فاس مكناس، والرباط سلا القنيطرة، وطنجة تطوان الحسيمة، وهو ما يبرز غياب توزيع عادل ومخطط للإنتاج بين جهات المملكة.
ويقترح رئيس جمعية التنوير الفلاحي؛ في هذا الإطار اعتماد تخطيط فلاحي وطني يعتمد على المعطيات المناخية لكل منطقة، من أجل توجيه الزراعات نحو ما يلائمها من حيث الموارد المائية والخصوصيات البيئية.
وضرب مثالًا بانتشار زراعة التفاح في مناطق غير ملائمة، مثل مراكش، رغم أنها تتطلب معدلًا مطريًا لا يقل عن 1200 ملم سنويًا.
وحذر من اختلالات الإنتاج، مثلما وقع مؤخرًا في إنتاج البصل، الذي شهد وفرة في منطقة فاس أدت إلى انهيار أسعاره إلى درهم واحد للكيلوغرام، نتيجة غياب التنسيق المسبق بين الجهات المعنية.
♦ بطء الانتقال التكنولوجي
يرى الصالحي أنه رغم وجود مؤشرات على إدخال تكنولوجيا زراعية متطورة من دول مثل إسرائيل وفرنسا وألمانيا، ما زال تعميمها بطيئًا جدًا.
وأوضح أن غياب التكوين الكافي، وارتفاع الأمية في الوسط الفلاحي، وغياب دعم مؤسساتي لتسويق الابتكارات المغربية، كلها عوامل تعرقل هذا الانتقال.
وأشار الخبير والمستشار الفلاحي، إلى بعض الابتكارات الذكية التي تتيح مراقبة نسبة رطوبة التربة وتحديد كمية الماء المطلوبة لكل نبتة بدقة، ما يمكن أن يساهم في تقليص استهلاك الماء بأكثر من 70%.
وأوضح رئيس جمعية التنوير الفلاحي، أن هذه الابتكارات تبقى حكرًا على ضيعات كبرى ذات تمويل ضخم، في غياب دعم موجه للفلاحين الصغار.
دعا إلى مراجعة شاملة للسياسات الفلاحية، عبر تخطيط وطني تشاركي يأخذ بعين الاعتبار التفاوتات المناخية والموارد المائية، ويعتمد على تصنيف المناطق حسب نوعية الزراعات الممكنة.
وشدد على ضرورة إحداث آليات مواكبة للفلاحين في الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة، عبر تحفيزات مالية وتكوين تقني، بما يضمن عدالة مجالية وأمنًا غذائيًا مستدامًا.