سجلت وضعية تحملات وموارد الخزينة خلال الأشهر السبعة الأولى من سنة 2025 عجزا ماليا ملحوظا بلغ 27,3 مليار درهم، مقابل 22,6 مليار درهم خلال الفترة نفسها من السنة الماضية، وهو ما يعكس ضغوطا متزايدة على توازن المالية العمومية رغم بعض بوادر التحسن على مستوى الموارد الجبائية.
وهذا العجز، وفق تقرير وزارة الاقتصاد والمالية حول وضعية الخزينة إلى غاية يوليوز 2025، وإن كان متوقعا في سياق الظرفية الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، يثير أسئلة عميقة حول استدامة المالية العمومية وحاجة الدولة إلى تعبئة موارد إضافية أو إعادة ترتيب أولويات الإنفاق.
الإيرادات… ارتفاع الجبايات وتراجع المداخيل غير الجبائية
تكشف أرقام التقرير أن الموارد العادية بلغت 222,5 مليار درهم عند متم يوليوز 2025، أي بارتفاع نسبته 8% مقارنة مع السنة السابقة، حيث يعود هذا الأداء بالأساس إلى تحسن المداخيل الجبائية التي ارتفعت بمعدل 10,7% لتسجل 203,5 مليار درهم.
وهذه القفزة، حسب البيانات، تعكس استمرار دينامية الاستخلاصات الضريبية، سواء تعلق الأمر بالضرائب المباشرة أو غير المباشرة، في ظل مجهودات الإدارة الضريبية وتعزيز الرقمنة، إلى جانب أثر بعض الظرفيات القطاعية.
وفي المقابل، يبين التقرير أن المداخيل غير الجبائية سجلت تراجعا قويا بنسبة 12,6%، إذ لم تتجاوز 18,9 مليار درهم مقابل 21,6 مليار درهم في الفترة ذاتها من 2024.
ويعزى هذا الانخفاض، حسب المصدر عينه، أساسا إلى تراجع المداخيل المحصلة من بعض الهيئات العمومية أو مداخيل الاحتكارات والرخص، مبرزا أن هذا التباين بين المنحى التصاعدي للجبايات والانكماش الحاد في الموارد غير الجبائية يؤشر على هشاشة قاعدة التمويل خارج الضرائب، ما يزيد من اعتماد الدولة على الضغط الجبائي لتمويل الميزانية.
النفقات… أعباء متزايدة للنفقات العادية وتباطؤ الاستثمار
على مستوى النفقات، يظهر التقرير أن التحملات الإجمالية للخزينة 278,9 مليار درهم إلى غاية نهاية يوليوز 2025، بزيادة قدرها 9,4% مقارنة مع الفترة نفسها من 2024، حيث هذه الزيادة مردها بشكل أساسي ارتفاع النفقات العادية التي بلغت 202,4 مليار درهم، مسجلة نمواً بنسبة 13%.
ويتضح حسب التقرير، أن كتلة الأجور استمرت في منحى تصاعدي، حيث ارتفعت بنسبة 3,8% لتصل إلى 100,9 مليار درهم، وهو تطور يعكس أثر الترقيات والتوظيفات الجديدة وكلفة الحوار الاجتماعي.
أما نفقات السلع والخدمات الأخرى، يقول التقرير/ أنها ارتفعت بـ 5,6% إلى 44,7 مليار درهم، بينما عرفت تكاليف فوائد الديون زيادة ملموسة بنسبة 14,6%، لتصل إلى 24,2 مليار درهم، ما يبرز ثقل المديونية على ميزانية الدولة.
الأكثر لفتاً للانتباه، حسب بيانات التقرير، هو ارتفاع نفقات المقاصة بنسبة 83,6% لتصل إلى 22,6 مليار درهم، مدفوعة خصوصا بارتفاع أسعار بعض المواد الأساسية والدعم الموجه للغاز والسكر، حيث هذه القفزة في كلفة المقاصة تطرح تحديات كبرى على صعيد استدامة المالية العمومية، خاصة في ظل محدودية هوامش المناورة أمام الدولة.
في المقابل، بين التقرير أن نفقات الاستثمار لم 52,5 مليار درهم، بتراجع نسبته 0,3%، مما يعكس تباطؤاً في وتيرة تنفيذ المشاريع الاستثمارية العمومية، حيث هذا المعطى يثير مخاوف بشأن قدرة الدولة على الحفاظ على دور الاستثمار العمومي كرافعة أساسية للنمو وداعم للاستثمار الخاص.
توازن الموارد والنفقات… عجز متزايد وضغوط تمويلية
عند خصم المداخيل من التحملات، يظهر التقرير أن عجز الميزانية ارتفع إلى 56,4 مليار درهم، قبل احتساب مداخيل الخوصصة، مقابل 45,9 مليار درهم خلال نفس الفترة من السنة الماضية، إذ بعد احتساب هذه المداخيل، التي بلغت 2,4 مليار درهم، استقر العجز في حدود 54 مليار درهم.
وهذا التوسع في العجز، حسب المصدر عينه، يعكس مزيجا من ارتفاع النفقات العادية (خصوصاً المقاصة وفوائد الدين) وضعف بعض موارد الدولة غير الجبائية، ما يفرض على الخزينة اللجوء أكثر إلى الاستدانة الداخلية والخارجية لتغطية الحاجيات التمويلية.
تصاعد اللجوء إلى الاقتراض الداخلي وتراجع التمويلات الخارجية
أبرز التقرير أن حاجيات الخزينة الإجمالية بلغت 54 مليار درهم، تمت تغطيتها بالأساس عبر موارد داخلية قدرها 49,8 مليار درهم، وموارد خارجية لم تتجاوز 4,2 مليار درهم. ويعني ذلك استمرار هيمنة السوق الداخلي على تمويل الخزينة، مع ما لذلك من انعكاسات على السيولة البنكية وكلفة التمويل.
وعلى صعيد خدمة الدين، يضيف التقرير أن مجموع تسديدات الخزينة بلغ 113,1 مليار درهم، منها 105,7 مليار درهم خصصت لأداء الديون الداخلية، و7,4 مليار درهم للديون الخارجية، مبرزا أن هذه الأرقام تعكس حجم الضغط الذي تمارسه خدمة الدين على الميزانية، حيث تلتهم قسطاً كبيراً من الموارد وتقلص هامش المناورة المالية للدولة.
بين ضغط المقاصة وتحديات الاستثمار
من خلال تفكيك هذه الأرقام، يتضح حسب التقرير، أن المالية العمومية تواجه في النصف الأول من 2025 معضلتين أساسيتين: الأولى تتعلق بالارتفاع غير المسبوق في نفقات المقاصة، والثانية تخص تباطؤ نفقات الاستثمار.
ووفق المصدر عينه، فارتفاع كلفة المقاصة بنسبة تفوق 80% يعكس هشاشة المنظومة في مواجهة تقلبات الأسعار الدولية للطاقات والمواد الأساسية، ويعيد إلى الواجهة النقاش حول إصلاح منظومة الدعم وتوجيهها نحو الأسر الأكثر هشاشة. في المقابل، تباطؤ الاستثمار العمومي في ظرفية تتسم بضعف المبادرة الخاصة قد يضعف فرص إنعاش النمو الاقتصادي ويحد من خلق فرص الشغل.
أما على مستوى الموارد، فرغم تحسن الجبايات، فإن تراجع المداخيل غير الجبائية يكشف محدودية التنويع في مصادر تمويل الميزانية، وهو ما يجعل الخزينة أكثر اعتماداً على الضغط الضريبي والاقتراض.
الخلاصات والتحديات المستقبلية
يعكس تقرير يوليوز 2025 صورة مزدوجة لوضعية المالية العمومية: من جهة، تحسن نسبي في الموارد الجبائية وتأكيد لنجاعة المجهودات المبذولة على مستوى التحصيل الضريبي؛ ومن جهة ثانية، تصاعد في النفقات العادية، خصوصاً المقاصة وخدمة الدين، مما أدى إلى تفاقم العجز.
وأمام هذه المعطيات، تجد المالية العمومية نفسها أمام ثلاثة تحديات كبرى يتعين التعامل معها بشكل عاجل وحاسم. أولها، إصلاح منظومة المقاصة بما يضمن استمرار دعم الفئات الهشة وحماية قدرتها الشرائية، دون أن يتحول الدعم إلى عبء يثقل كاهل الميزانية. ثانيها، تقوية الاستثمار العمومي وتوفير الحوافز الكفيلة بجذب الاستثمارات الخاصة، قصد الحفاظ على دينامية النمو وتوليد مناصب الشغل. أما التحدي الثالث، فيتمثل في ضرورة تنويع موارد الخزينة عبر التوظيف الأمثل لأصول الدولة، وتسريع برامج الخوصصة، وتوسيع نطاق الشراكات المؤسساتية، بما يتيح هوامش تمويل إضافية لتغطية الحاجيات المتزايدة.
وخلص التقرير أن استدامة المالية العمومية والحفاظ عليها في هذا السياق يقتضي مقاربة شمولية توازن بين متطلبات الاستقرار الاجتماعي وضوابط الانضباط المالي، مع ضرورة مواصلة الإصلاحات الهيكلية التي تضمن موارد قارة وتقلص تبعية الميزانية لتقلبات الظرفية.

