اختتمت القمة العربية الإسلامية الطارئة بالدوحة أشغالها باعتماد بيان ختامي مثقل بالدلالات السياسية والاستراتيجية؛ دعا بوضوح جميع الدول إلى مراجعة علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل، في سياق تصاعد الغضب العربي والإسلامي إثر العدوان الإسرائيلي على السيادة القطرية، وهذه الدعوة جاءت لتشكل لحظة مفصلية في مسار التعاطي الجماعي مع القضية الفلسطينية، وفتحت في الآن ذاته نقاشا واسعا حول التزامات الدول التي انخرطت في مسار التطبيع مع تل أبيب خلال السنوات الأخيرة، وفي مقدمتها المغرب الذي أعاد علاقاته الدبلوماسية معها سنة 2020.
وفي ظل هذه المستجدات، يطرح السؤال حول الكيفية التي ستوازن بها الرباط بين انخراطها في الدينامية الجماعية للعالمين العربي والإسلامي، وبين مصالحها الاستراتيجية المرتبطة بالشراكات الأمنية والعسكرية والاقتصادية مع إسرائيل؛ الذي تبرز معه أيضًا فرضيات حول إن كان المغرب سيتجه إلى صياغة مقاربة وسطية تحفظ التزامه التاريخي برئاسة لجنة القدس وتأييده الثابت للحقوق الفلسطينية، أم أنه سيحافظ على مسار التعاون القائم مع تل أبيب تحت ضغط التحالفات الدولية، وحول مدى تأثر موقع الرباط الإقليمي والدولي إذا ما اختارت أحد الخيارين، في وقت تتقاطع فيه الضغوط الشعبية مع رهانات التوازنات الجيوسياسية الكبرى.
❖ مخرجات القمة
يعتبر بلال التليدي، الباحث والمحلل السياسي، أن فهم مخرجات قمة الدوحة لا يستقيم إلا بقراءة متأنية للبيان الختامي بكامل تفاصيله، مع تقسيم مضمونه إلى ثلاثة مستويات أساسية؛ أولها يرتبط بلغة الإدانة والشجب لسياسات إسرائيل العدوانية؛ سواءً في غزة أو لبنان أو سوريا، بل وحتى في اتجاه قطر، وهو ما عكس صورة دولة مارقة تتنكر للقوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية.
وأشار التليدي في تصريح لجريدة “شفاف”، إلى أنه لم يكن مجرد إشارة رمزية، بل محاولة لإعادة صياغة موقف عربي إسلامي موحد يضع إسرائيل في خانة الخروج عن الشرعية الدولية، بما يترتب عن ذلك من تكثيف الضغوط الدبلوماسية عليها.
وأردف الباحث والمحلل السياسي أن القمة لم تكتف بالتنديد التقليدي، وإنما قدمت توصيفًا يضع إسرائيل في خانة تهدد الاستقرار الإقليمي وتؤسس لقرارات أكثر صرامة لاحقًا.
وأكد أن هذا القسم من البيان أرسل رسائل مزدوجة إلى المجتمع الدولي بضرورة تحمل مسؤولياته تجاه خروقات إسرائيل، وإلى الرأي العام العربي والإسلامي بأن الموقف الجماعي لا يزال قائمًا، رغم تباين مصالح الدول في العلاقة مع تل أبيب.
❖ آليات الضغط
أما المستوى الثاني من البيان، فيبرز التليدي أنه الأكثر عملية من حيث الأثر السياسي، إذ دعا الدول العربية والإسلامية إلى تفعيل كل ما هو متاح من أوراق ضغط اقتصادية ودبلوماسية وسياسية لعزل إسرائيل وإجبارها على مراجعة سياساتها.
ولفت إلى أن القمة طرحت بشكل غير مباشر إمكانية استعمال ورقة التطبيع وقطع العلاقات كوسيلة ضغط، بما في ذلك إعادة النظر في الاتفاقات الإبراهيمية التي مثلت رافعة لتوسيع التعاون مع تل أبيب.
إدانة المغرب للعدوان الإسرائيلي على قطر.. تضامن عربي ثابت أم تحول في موازين السياسة الإقليمية؟
واستطرد أن هذا المنحى لا يعني بالضرورة أن كل الدول ستذهب في الاتجاه نفسه، إذ إن القمة لم تصدر قرارًا إلزاميًا بإنهاء العلاقات، وإنما تركت لكل دولة مساحة سيادية لتقدير مصالحها، لكنها في الآن ذاته منحتها غطاءً سياسيًا جماعيًا لاستعمال هذه الورقة عند الحاجة.
وشدد على أنه بالتالي، فالمغرب ضمن هذا السياق يجد نفسه أمام توازن دقيق؛ يرتبط بكيفية الاستجابة لهذه الدعوة التي تحمل بُعدًا تضامنيًا مع فلسطين وقطر؛ دون أن يغامر بمصالحه الاستراتيجية الحيوية المرتبطة بالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، خاصة في ظل الوضع الحساس لملف الصحراء المغربية.
❖ سقف السلام
أما المستوى الثالث، والذي اعتبره التليدي الأكثر أهمية، فيتمثل في مرجعية القمة للسلام والحوار، مبرزًا أن البيان لم يذهب إلى حد “ضرب الطاولة” على إسرائيل، وإنما اكتفى بالتلويح بأدوات الضغط لإرغامها على العودة إلى طاولة المفاوضات.
وهذه المرجعية تكشف، بحسب التليدي، عن سقف متواضع يعكس تعقيد السياق الإقليمي؛ سواءً في الخليج أو الشرق الأوسط عمومًا، مشيرًا إلى أن ارتباطات هذه الدول بتحالفات استراتيجية؛ خاصة مع الولايات المتحدة، جعلت من المستحيل التوصل إلى قرار جماعي ملزم بقطع العلاقات.
وأكد الباحث والمحلل السياسي أن القمة أرادت أن توازن بين خطاب التضامن مع فلسطين وبين متطلبات الواقعية السياسية، فجاءت دعوتها في صيغة وسطية، تجلت في إدانة قوية وتهديد بالضغط؛ مع الإبقاء على باب التفاوض مفتوحًا.
❖ ورقة أكتوبر
فيما يخص المغرب تحديدًا، يشدد التليدي على أن موقع الرباط في هذا السياق تحكمه إكراهات ظرفية حساسة، مبرزًا أن أكتوبر المقبل يمثل محطة مفصلية في ملف الصحراء المغربية، بعدما وضعت الولايات المتحدة في أبريل الماضي سقفًا زمنيًا من ستة أشهر لتقييم المفاوضات.
ولفت إلى أن هذا الموعد الذي سيجتمع خلاله مجلس الأمن الدولي للنظر في هذا الملف؛ يجعل المغرب في وضع مقيد لا يسمح له في المدى القصير بالمغامرة بخطوات جذرية في علاقاته مع إسرائيل قد تُضعف موقفه في قضية الصحراء.
وأوضح الباحث والمحلل السياسي أن الأولوية الآن، هي الحفاظ على استقرار الموقف المغربي حتى يتضح مدى التزام الأطراف الدولية، وعلى رأسها واشنطن، بوعودها المتعلقة بدعم المسار السياسي.
وأردف أنه بالمقابل، فإن المدى المتوسط والبعيد قد يتيح للرباط مساحة أوسع للتحرك؛ خاصة إذا استمرت الحرب لأشهر إضافية، أو إذا تراجع الغطاء الدولي لإسرائيل، ما قد يفتح المجال أمام المغرب لتبني مقاربة أكثر وضوحًا في اتجاه إعادة تقييم شراكاته.
❖ ثبات المواقف
رغم هذه القيود، يلفت التليدي إلى أن المغرب لم يتوقف يومًا عن إدانة الاعتداءات الإسرائيلية؛ سواءً عبر بيانات وزارة الخارجية، أو من خلال مواقف الملك محمد السادس بصفته رئيسًا للجنة القدس، أو عبر ممثليه في المحافل الدولية.
وأكد الباحث والمحلل السياسي أن هذه الأمور تثبت بالملموس أن علاقاته مع إسرائيل لم تمنعه من التعبير عن رفضه المستمر للعدوان على الفلسطينيين.
رسالة الملك بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني.. قراءة في الدلالات والأبعاد السياسية
وأبرز أن الفارق يكمن في التمييز بين الموقف الأخلاقي والسياسي، لافتًا إلى أن المغرب يندد ويشجب دون تردد، لكنه في اتخاذ قرارات استراتيجية مثل تعليق العلاقات أو إنهاء الاتفاقيات، يظل محكومًا باعتبارات أوسع ترتبط بالتوازنات الدولية ومصالحه الوطنية العليا.
ويرى التليدي أن شهر أكتوبر سيكون فرصة لتقييم شامل لمسار خمس سنوات من استئناف العلاقات مع إسرائيل، لمعرفة إلى أي مدى خدم هذا المسار القضية الوطنية، وإلى أي حد يمكن تعديله أو الاستمرار فيه.

