أكدت الحكومة التزامها برفع الحوار الاجتماعي إلى مستوى استثنائي وغير مسبوق، بعدما كشف مصطفى بايتاس، الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والناطق الرسمي باسم الحكومة، أن الكلفة الإجمالية لهذا الورش ستناهز 45 ملياراً و738 مليون درهم في أفق سنة 2026، قبل أن تتجاوز 46 ملياراً و702 مليون درهم سنة 2027.
واعتبر بايتاس أن هذه الأرقام تمثل تحوّلاً تاريخياً في مسار الحوارات الاجتماعية بالمغرب، مبرزاً أن الإجراءات المرتقبة ستشمل أزيد من مليون و127 ألف موظف، بما سينعكس إيجاباً على الملايين من الأسر المغربية.
كما أوضح أن متوسط الأجور الصافية سيتطور إلى 10 آلاف و100 درهم سنة 2026، مع رفع الحد الأدنى للأجر إلى 4500 درهم خلال يوليوز المقبل، بزيادة تصل إلى 50 في المائة، في إشارة واضحة إلى إرادة الحكومة في جعل الحوار الاجتماعي أداة فاعلة لتحسين أوضاع الشغيلة وتعزيز الاستقرار الاجتماعي.
♦استقرار التوازنات الاقتصادية
كشف علي الغنبوري، المحلل الاقتصادي، ورئيس مركز الاستشراف الاقتصادي والاجتماعي، أن تخصيص أزيد من 46 مليار درهم لدعم الحوار الاجتماعي لا يُعد رقماً ضخماً إذا ما قورن بما راكمته الدولة من مداخيل ضريبية خلال السنوات الأخيرة، مشدداً على أن التوازنات الماكرو اقتصادية الوطنية ما تزال تحافظ على استقرارها رغم الكلفة الاجتماعية المترتبة عن هذا الالتزام الجديد.
واعتبر الغنبوري، في تصريحه لجريدة “شفاف”، أن هذا التوجه يعكس نضج السياسة المالية المغربية، وقدرتها على تدبير التزاماتها الاجتماعية دون الإضرار بالمؤشرات الاقتصادية الكبرى أو تعريضها للاهتزاز.
وأوضح الغنبوري أن تخصيص هذا الغلاف المالي جاء في سياق اقتصادي عالمي يتسم بكثير من الضبابية وعدم اليقين، غير أن معطيات الاقتصاد الوطني، خصوصاً تطور الموارد الضريبية وتعزز متانة المالية العمومية، وفرت هامش مناورة مريحاً للحكومة، مما مكنها من تحمل هذه الكلفة دون السقوط في دوامة اختلالات مالية.
وأضاف أن الوضعية الماكرو اقتصادية للمغرب ظلت متماسكة رغم الاضطرابات العالمية، مستشهداً بالتحسن المستمر في مؤشرات العجز والمديونية كدليل قوي على صلابة البنية الاقتصادية الوطنية.
وسجل الغنبوري أن ارتفاع مداخيل الضرائب، سواء عبر الضريبة على القيمة المضافة أو الضريبة على الدخل والأرباح، لعب دوراً محورياً في توفير قاعدة مالية صلبة مكنت الدولة من تحمل كلفة الحوار الاجتماعي دون الحاجة إلى فرض ضرائب جديدة أو المساس بالأهداف المحددة لعجز الميزانية.
واعتبر أن الأداء الجبائي الإيجابي الذي حققته الدولة هو ثمرة الإصلاحات العميقة التي شهدتها المنظومة الضريبية، والتي هدفت أساساً إلى توسيع القاعدة الجبائية وتعزيز مبادئ العدالة الضريبية.
♦تحفيز الطلب الداخلي
بين الغنبوري أن تداعيات الزيادات في الأجور ستكون إيجابية للغاية على مستوى تحفيز الاستهلاك الداخلي.
وأفاد بأن ارتفاع الدخل الفردي سينعكس تلقائياً في تعزيز الطلب الداخلي، مما سيساهم في تحريك عجلة الإنتاج الوطني بمختلف قطاعاته، سواء الصناعية أو الخدمية.
وأبرز أن الرهان على تنشيط السوق الداخلية يكتسي أهمية مضاعفة في ظل تباطؤ حركة التجارة الدولية وتراجع الطلب الخارجي، مما يجعل السوق الوطنية أحد المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي خلال المرحلة المقبلة.
واسترسل قائلاً: إن ضخ موارد مالية إضافية في جيوب الأسر المغربية سيسهم بدوره في تحفيز قطاعات حيوية مثل السكن والنقل والخدمات والتجارة، الأمر الذي من شأنه أن يرفع معدلات النمو ويساعد على خلق مزيد من فرص العمل، وبالتالي يعزز الدينامية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
وأوضح أن هذه الدينامية تتطلب في المقابل تدخلاً نشطاً من الدولة لضمان الاستقرار السعري، حتى لا تتآكل مكاسب الزيادات في الأجور تحت وطأة التضخم.
وفي معرض حديثه عن مدى مساهمة هذه الزيادات في التخفيف من آثار التضخم، أوضح الغنبوري أن تحسين القدرة الشرائية يمثل اليوم أداة فعالة لدعم صمود الأسر أمام موجات الغلاء.
وأكد أن موجة التضخم التي اجتاحت سلة المواد الأساسية خلال السنتين الماضيتين أثرت سلباً على القدرة الشرائية لفئات واسعة من المجتمع، مما فرض على الحكومة ضرورة اعتماد إجراءات اجتماعية عاجلة وفعالة لامتصاص هذه الآثار السلبية.
ورأى أن الزيادات في الأجور ستشكل متنفساً مالياً هاماً، خصوصاً بالنسبة للطبقة المتوسطة والفئات الهشة، مما يمكنها من الحفاظ على توازنها المالي والاجتماعي.
وشدد الغنبوري في هذا الإطار على أن نجاح هذا التوجه يظل رهيناً بمدى قدرة الدولة على ضبط الأسواق ومحاربة المضاربات التي ترفع الأسعار بشكل غير مبرر، مؤكداً أن ضمان استفادة حقيقية للمواطنين من هذه الزيادات يتطلب تفعيل آليات الرقابة الصارمة والفعالة على مختلف سلاسل التوريد والتوزيع.
♦استدامة الإصلاحات المالية
وفيما يتعلق بالتحديات الاقتصادية المحتملة لتمويل هذه الكلفة الاجتماعية غير المسبوقة، أوضح الغنبوري أن المغرب نجح بفضل إصلاحاته الجبائية العميقة في توفير قاعدة مالية متينة.
وأكد أن الدولة استطاعت بفضل سياسات محكمة توسيع الوعاء الضريبي، والحد من التهرب، وتحسين نجاعة التحصيل الضريبي، مما مكن من رفع مداخيل الميزانية بشكل كبير، وبالتالي تمويل البرامج الاجتماعية دون الاضطرار إلى اللجوء إلى استدانة مفرطة قد تهدد الاستقرار المالي الوطني.
ولفت إلى أن الحفاظ على هذه الدينامية المالية يتطلب مواصلة العمل على ترشيد النفقات وتعزيز الاستثمار المنتج، بما يضمن استدامة تمويل البرامج الاجتماعية الكبرى في المستقبل.
وشدد على أن هذا التوجه يحمي التوازنات الاقتصادية ويحول دون إثقال كاهل الأجيال المقبلة بمزيد من المديونية، وهو ما ينسجم مع أهداف الاستدامة المالية والتنموية التي تتبناها المملكة.
كما أشار الغنبوري إلى أن تعزيز ثقة المستثمرين والمؤسسات المالية الدولية في الاقتصاد المغربي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى قدرة المغرب على التوفيق بين الاستجابة للمطالب الاجتماعية والحفاظ على صلابة بنيته المالية.
وأكد الغنبوري أن تخصيص أزيد من 46 مليار درهم لدعم الحوار الاجتماعي لا يمكن اعتباره مجرد استجابة آنية لضغوط ظرفية، بل إنه يندرج ضمن رؤية استراتيجية أوسع لبناء نموذج تنموي جديد يقوم على تعزيز العدالة الاجتماعية وتحقيق الاستدامة الاقتصادية.
وأبرز أن الاستثمار في تحسين أوضاع الشغيلة المغربية هو اليوم خيار استراتيجي لتعزيز النمو الشامل، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، ورفع مناعة الاقتصاد الوطني تجاه الصدمات الخارجية.
وختم الغنبوري تصريحه بالتأكيد على أن المغرب، بفضل إصلاحاته العميقة وحسن تدبيره المالي، لا يكتفي بتحمل الكلفة الاجتماعية غير المسبوقة، بل ينجح في تحويلها إلى فرصة حقيقية لإطلاق دينامية تنموية متجددة، يكون فيها المواطن محور السياسات العمومية، بما يعزز موقع المملكة كقوة صاعدة بثقة وثبات داخل محيط إقليمي ودولي يتسم بالتقلبات وعدم الاستقرار.

