في خطوة استراتيجية تحمل أبعادًا إنسانية وتنموية كبرى، أعطى الملك محمد السادس، انطلاقة أشغال إحداث منصة المخزون والاحتياطات الأولية بجهة الرباط-سلا-القنيطرة، لتكون الأولى ضمن مشروع وطني متكامل يروم إحداث 12 منصة مماثلة بمختلف جهات المملكة، وتندرج هذه المبادرة الطموحة ضمن رؤية ملكية استباقية لتعزيز قدرات المغرب على التدخل الفوري والمنسق في حالات الطوارئ والكوارث، عبر بنية تحتية لوجستيكية حديثة تستجيب لأعلى المعايير الدولية في مجال تدبير الأزمات، وتضمن وصول المساعدات إلى المتضررين في ظرف وجيز لا يتجاوز ست ساعات من لحظة الانطلاق.
وإذا كانت هذه المبادرة تؤشر على ترسيخ مفهوم الصمود الترابي كمكون جوهري في استراتيجية الدولة، فإنها تطرح في الآن ذاته جملة من التساؤلات حول السياق الذي يجعل من مثل هذه المشاريع ضرورة ملحة، خصوصًا بعد زلزال الحوز، وكذا حول مدى قدرة هذه البنيات الجديدة على إعادة تشكيل المنظومة الوطنية للتدخل السريع، كما تفتح الباب أمام التفكير في أبعاد السيادة الوطنية في مجال تدبير الأزمات، وأهمية الانتقال من منطق التدخل الاستثنائي إلى منطق التدبير الاستباقي، ناهيك عن الدور المنتظر من هذه المنصات في دعم الأمن الإنساني بالمغرب وتعزيز توازن الجغرافيا الخدماتية بين الجهات.
جلالة الملك يعطي انطلاقة إحداث منصة المخزون والاحتياطات الأولية لجهة الرباط- سلا- القنيطرة
♦ ما بعد الزلزال
يؤكد محمد شقير، الباحث والمحلل السياسي، أن زلزال الحوز شكّل لحظة مفصلية في تاريخ تدبير الكوارث بالمغرب، لما خلفه من خسائر بشرية ومادية جسيمة، وما استتبعه من وعي مؤسساتي عميق بضرورة تجاوز المنظومة التقليدية في التعامل مع الأزمات.
وقال شقير في تصريح لجريدة “شفاف”، إن الكارثة أظهرت الحاجة الماسة إلى هندسة جديدة للتدخل ترتكز على الاستباق وسرعة التحرك، بدل الاقتصار على المعالجة البعدية التي غالبًا ما تزيد من حجم الخسائر.
وأردف الباحث والمحلل السياسي، أنه من هذا المنطلق، جاءت التوجيهات الملكية في اجتماع 20 شتنبر 2023 لتضع الأسس الأولية لمنظومة وطنية شاملة تُعلي من شأن الوقاية وتختصر زمن الاستجابة في اللحظات الحرجة.
وأبرز أن ما أعقب هذا الاجتماع من عمل حثيث مكّن من بلورة تصور متكامل تجسد اليوم في إطلاق أول منصة جهوية للمخزون والإغاثة بجهة الرباط-سلا-القنيطرة.
وأضاف أن هذه الخطوة تشكل إعلانًا رسميًا عن الانتقال من مرحلة التخطيط إلى مرحلة الإنجاز، وفق مقاربة تعتمد التوزيع العادل والتناسب بين حجم الجهة الديموغرافي وحاجياتها اللوجستيكية خلال الكوارث.
♦ هندسة المنصات
يشرح شقير أن المشروع يقوم على إحداث 12 منصة جهوية موزعة بحسب ثقل الجهة وحجم التهديدات المحتملة، حيث ستضم الجهات الكبرى أربع مستودعات مركزية، فيما ستكتفي الجهات الست الأخرى بمستودعين لكل منها.
وتابع أنه تم تخصيص غلاف مالي إجمالي قدره 7 مليارات درهم، منها ملياران لأشغال البناء، وخمسة مليارات لتعبئة المحتويات اللوجستيكية والطبية والغذائية.
وأكد أن هذه البنية اللوجستيكية ستُمكّن من التدخل في غضون ست ساعات على الأكثر من وقوع الكارثة، وهو عنصر حاسم في الحد من الخسائر البشرية، على اعتبار أن الساعات الأولى غالبًا ما تكون الفيصل بين النجاة والمأساة.
ولفت الباحث والمحلل السياسي، أن السرعة التي سيتم التعامل بها مع الحوادث الطارئة والكوارث الطبيعية بعد اكتمال هذه المنصات تُعد سابقة على الصعيد الإفريقي، ما يجعل من المغرب بلدًا رائدًا في اعتماد المقاربة الاستباقية في هذا المجال.
♦ منظومة متكاملة
يشدد شقير على أن نجاح المشروع لا يقتصر على تجهيز المنصات بالمعدات، بل يتطلب كذلك إرساء منظومة مؤسساتية متجانسة، مشيرا إلى أنه تم الحرص على إشراك مختلف المتدخلين، من سلطات عسكرية وأمنية وإدارية، وفي مقدمتهم وزارة الداخلية ووزارة الصحة، بما يضمن التكامل في الأدوار والسرعة في التنسيق.
وأبرز الباحث والمحلل السياسي، إلى أنه تم أيضا تحديث المعايير التقنية والتنظيمية المشرفة على إدارة هذه المنصات، لضمان جاهزيتها في كل لحظة.
ثورة تنموية مسنودة بانتقال ديمقراطي ونجاح دبلوماسي.. حصيلة 25 عاما من عهد الملك محمد السادس
وأضاف أن التحدي لا يكمن فقط في مواجهة الكوارث، بل في دمج منطق التدبير الاستباقي ضمن السياسات العمومية الوطنية، وتحويل الأزمات من لحظات استثنائية إلى مكوّن دائم في تخطيط الدولة، انسجامًا مع التغيرات المناخية، والاضطرابات البيئية، والمخاطر الطبيعية التي أصبحت جزءًا من الواقع اليومي.
♦ مفهوم الصمود
في تحليله للمفهوم المركزي الذي يرتكز عليه المشروع، يربط شقير بين “الصمود الترابي” وبين الانتقال من منطق التأثر إلى منطق التهيؤ والمواجهة، موضحا أن الصمود الترابي، يعني الاعتراف بأن الكوارث الطبيعية والإشعاعية والمناخية أضحت جزءًا من معيش المواطن، ومن ثم يجب أن تُدرج في هندسة الدولة كبنية دائمة، وليس كحالة استثنائية.
ويستحضر شقير تشبيهًا بالحروب، حيث تؤسس الدول جيوشها وتجهز نفسها رغم أن الحرب قد تقع أو لا تقع، لكن الاستعداد المسبق يظل ضرورة سيادية.
ولفت إلى أن هذا المنطق ينسحب على تدبير الكوارث، قائلا إنه لا يمكن انتظار الزلزال أو الفيضان أو الانهيار الأرضي لبدء التحرك، بل يجب أن تكون أدوات المواجهة جاهزة وموزعة جغرافيًا ومتوفرة في الزمن المناسب.
♦ البعد الدولي
لا يغفل شقير البعد الجيوسياسي للمشروع، مؤكدًا أن المغرب يقدم نموذجًا قابلًا للتصدير ليس إلى القارة الإفريقية فقط، بل إلى العالم، من خلال دمج منظومة الإغاثة في صلب سياسات الدولة، وتجاوز منطق التدخل اللحظي الذي يطبع أغلب تجارب الدول النامية.
وأشار الباحث والمحلل السياسي، إلى أن المغرب راكم تجربة في التدخل الإنساني الدولي، كما حصل خلال الفيضانات التي وقعت بإسبانيا، حيث نال إشادة رسمية من مدريد لما أبداه من سرعة وكفاءة في التدخل.
رئيس الحكومة الإسبانية يشكر المغرب على دعمه لجهود الإغاثة في المناطق المتضررة من الفيضانات
وأوضح أن هذا التموقع الدولي يُمكن أن يُعزز من حضور المغرب في المحافل الأممية والإقليمية المعنية بإدارة الكوارث والأزمات الإنسانية.
وأكد أن الرباط تقدم نموذجًا يعتمد على التخطيط طويل الأمد، والمرونة المؤسساتية، والتوزيع المجالي العادل للوسائل، وهو ما قد يُسهم في تعزيز دبلوماسية إنسانية مغربية قادرة على التأثير في أجندة الأمن الإنساني العالمي.