تعود الدراما التلفزيونية لتكون محور النقاش في الأوساط المغربية، حيث تتنافس الأعمال الرمضانية على جذب انتباه المشاهدين بحبكات درامية متنوعة، وفي هذا السياق أثار مسلسل “الدم المشروك” جدلاً واسعًا بين الجمهور والنقاد على حد سواء، نظرًا لقصته التي تدور حول صراع عائلي على ميراث مزرعة كبيرة، أو بسبب تأثره المزعوم بالثقافة المصرية.
ورغم تقديمه كعمل مغربي أصيل وفق القائمين على إنتاجه، يرى فيه بعض المختصين والمشاهدين أن هذا العمل يسلط الضوء على إشكالية الهوية الثقافية في الدراما المغربية، ويثير تساؤلات حول مدى تمثيلها للواقع المحلي وتراثه الغني، في ظل تعاون مغربي-مصري في كتابة السيناريو وإنتاجه.
وتدور قصة هذا العمل الفني المعروض على القناة الثانية؛ حول صراع محتدم للسيطرة على المزرعة العائلية بعد وفاة “الشريفة” أو “خِيرة”؛ وهي امرأة قوية كانت على رأس إمبراطورية لتربية المواشي والجزارة، حيث ستواجه بناتها الثلاثة اللاتي لا علاقة لهن بالمجال مجموعة من التحديات لتسيير العمل، وكذا الأعداء الذين يسعون للسيطرة على مزرعة والدتهن المتوفية.
♦ “الدم المشروك” والواقع المغربي
أبرزت ياسمين بوشفر، الناقدة سينمائية، والباحثة بسلك الدكتوراة، ورئيسة جمعية الثقافات والهجرات، أنه لا يمكن الحكم على مدى نجاح مسلسل “الدم المشروك” في تقديم دراما اجتماعية تعكس الواقع المغربي من خلال ثلاث حلقات لأننا لحد الان نستكشف أطوار القصة.
وقالت بوشفر في تصريح لجريدة “شفاف”، إن المشاهد لا يزال لا يعرف العديد من التفاصيل على العلاقات التي تربط بين شخصيات المسلسل، مشيرة إلى أنه على سبيل المثال شخصية رقية التي هي من تجسيد الممثلة دنيا بوطازوت وخلافها مع خِيرة.
وأضافت أن أول رسالة لهذا العمل تتمثل في كون الوصية تحمي حقوق الوارثين خاصة الإناث منهم، وأن أحداث المسلسل مبنية على الميراث والمشاكل التي يمكن أن يحدثها رغم توصل الوارثين بنصيبهم، وكذا أن هناك وارثين شرعيين تم تجريدهم من الإرث يحاولون الاستفادة بشتى الطرق؛ الشيء الغير مقبول بتاتا بوجود وصية.
وأردفت أنه من خلال تصريحات الممثلين في المسلسل على العديد من المنابر الإعلامية، يظهر أن هذا العمل عبارة عن دراما مصرية قامت خلية الكتابة لتحويلها لدراما مغربية، ولكن من خلال الحلقات الأولى نستشعر فضاء الصعيد أو الصعايدة بالمصرية، ولنكن واقعيين هي بعيدة كل البعد عن ثقافة القرى المغربية لا في تقاليدنا وعاداتنا.
في السياق ذاته، اعتبر إدريس القري، كاتب وناقد وباحث في الفلسفة والفنون، أن المسلسل يظهر منذ حلقاته الأولى، كمحاولة لتقديم دراما قوية ومؤثرة تسلط الضوء على صراعات عائلية حول الإرث، مستندًا إلى إيقاع درامي مرتفع وكتابة متقنة، غير أنه يشير إلى ضرورة مشاهدة العمل كاملًا للحكم عليه بصورة أكثر شمولًا.
ويطرح القري في تصريح لـ”شفاف”، تساؤلًا جوهريًا حول مدى قدرة المسلسل على عكس الواقع المغربي، مستشهدًا برؤية الناقد السينمائي الفرنسي جون ميتري، الذي يؤكد أن نجاح أي عمل درامي يعتمد على مدى مطابقته للواقع الاجتماعي والثقافي الذي ينتمي إليه.
واستطرد الناقد الفني أنه رغم أن “الدم المشروك” مسلسل مغربي، إلا أنه يحمل في طياته مناخًا وإيقاعًا وطابعًا لا يبدو مغربيًا بالكامل، مما يفتح باب النقاش حول الهوية الثقافية في الإنتاج الدرامي.
♦ الثقافة المصرية في المسلسل
تشير ياسمين بوشفر إلى أن الاقتباس لم يكن أبدًا عائقا في الإبداع الفني، ولكن في مسلسل مغربي موجه لجمهور مغربي مستوحى من الثقافة المصرية وتم تحويله للثقافة المغربية ستكون هناك العديد من الهفوات، لأن ليس نفس الثقافة والتركيبة المجتمعية التي ستستقبل العمل، وأيضا كما نعرف أن المجتمع المغربي كان ولا زال يتفرج في الأعمال الدرامية المصرية؛ بحيث أنه منفتح على ثقافتهم، موضحة أن ثقافتي البلدين مختلفة شيئا ما.
وذكرت الناقدة السينمائية أن اختيار كاتبة مصرية لكتابة السيناريو كان له تأثير على هوية العمل المغربي، مبرزة أنه يمكن أن تكون قد عايشت المجتمع المغربي وعاشت بالبلاد لسنوات، مفترضة أن العيش به لا يمكن من الاطلاع على ثقافة شعب أو مناطق كثيرة التي لها أوجه اختلاف وتشابه بالمغرب.
ولفتت إلى أن لدى المغاربة ثقافات مختلفة، حيث إن من يسكن بالمدن ليس كما القرى وباختلاف المناطق والجهات أيضا، مبرزة أن الحال ينطبق كذلك اذا انقلب الأمر، حيث لا يمكن لكاتب مغربي أن يصور المجتمع المصري كمصري ولد وكبر بهذا البلد رغم عيشه وتعايشه بهذا المجتمع.
وفيما يخص إثارة اختيار الأزياء والأجواء في المسلسل جدلاً بين المشاهدين، ترى بوشفر أن زيّ الممثلة بوطازوت التي تجسد دور رقية هو الذي أثار الجدل فقط، بسبب ما ترتديه على رأسها، وهو ما يذكرنا بالنساء المصريات اللواتي يحكمن الحارات المصرية والمعروفات بالسلطة والملقبات بـ”المعلمة” أو”الريسة”.
وأوضحت أن ما يثير الجدل هو الإكسسوارات؛ حيث أنها تحمل معها دائما سكين الذبح، ما يعتبر في بلادنا سلاحا أبيضا، لافتة إلى أن ارتداء القفطان بالحزام بالمغرب رمز للأناقة، والطريقة التي ارتديّ بها في المسلسل يثير الجدل والعديد من التساؤلات.
وتابعت أنه في الثقافة المصرية هؤلاء النساء يرتدين ما يطلق عليه الجلبية وعندهم إكسسواراتهن وبدون حزام وغالبا لا يحملن سلاح كإكسسوار، مبرزة انه رمز للحماية والدفاع عن النفس، ولكن في ثقافتنا لم نتعود على رؤية القفطان بهذا الشكل.
فيما يتعلق بتأثير الثقافة المصرية في المسلسل، يرى إدريس القري أن الاستعانة بكاتبة سيناريو مصرية ومساعدين مصريين، رغم مشاركة مغاربة في العمل، يثير إشكالية التفاعل الثقافي.
واستشهد القري بالمفكر إدوارد سعيد، الذي يرى أن الثقافات تنمو من خلال الاحتكاك والتفاعل مع الآخر، لكن هذا لا يجب أن يؤدي إلى إنتاج أعمال هجينة تفتقد هوية واضحة، مبرزا أن بدلًا من ذلك، ينبغي أن تعزز هذه التفاعلات غنى العمل وإبداعه دون طمس الهوية المحلية.
وشدد على أن أي كاتب سيناريو ينتمي إلى هوية ثقافية معينة يصعب عليه الانسلاخ عن خصوصياته الهوياتية، مما ينعكس على العمل الفني، موضحا أن غياب رؤية إخراجية قوية ومسيطرة على تفاصيل الإنتاج قد يؤدي إلى فقدان الطابع المحلي في العمل الفني.
♦ المرأة المغربية في “الدم المشروك”
توضح ياسمين بوشفر أن “الدم المشروك” يعزز صورة المرأة القوية أو المتجبرة في الدراما المغربية، وذلك من خلال شخصيتي بنتي خيرة المجسدتين من طرف الفنانتين مريم الزعيمي وساندية تاج الدين اللتين بين ليلة وضحاها أصبحتا وريثتين لثروة من جهة أمهما، ويجب عليهما أن تتأقلما مع الوضع الجديد.
وأضافت أن ما سبق تمت مشاهدته خلال الحلقتين الثانية والثالثة من خلال ذهابهما لسوق البهائم ومواجهة نظرات الباعة في هذا السوق ذو السمة الذكورية، وأيضا مواجهة كل المشاكل والمعيقات على خطى أمهم المتوفية التي كانت تقوم بنفس العمل رغم كونها امرأة واحدة بين الرجال، لافتة إلى ذلك يبين مدى كفاح وقوة المرأة المغربية المثابرة لتحقيق أهدافها وفرض وجودها في المجتمع.
على المنوال ذاته، اعتبر إدريس القري أن “الدم المشروك” يضع صورة غريبة حقيقة عن المرأة المغربية، موضحا أن شخصية “رقية” التي تلعبها الممثلة بوطازوت في هذا العمل الفني، تبقى عنيفة وانتقامية حتى مع أبنائها.
وأوضح أن إظهار المرأة الصلبة والقاسية والراغبة في الثأر همّ شخصيات عديدة في هذا المسلسل، بما فيها الأدوار التي لعبتها كل من ساندية تاج الدين ومريم الزعيمي، مستغربا من كيفية اندماج بعض هذه الشخصيات المتحضرات واللاتي كن يعشن في المدن بسرعة وسهولة في جو الانتقام والشر.
♦ ترسيخ “البلطجة”
تبرز ياسيمن بوشفر أنه في المجتمع المغربي وفي الاوساط التي تتسم بهذا النوع من السمات لا نرى هذا النوع من التصرفات والسلوكيات التي ترسخ للبلطجة وحمل المرأة لسلاح أبيض من الحجم الكبير، موضحة أنه يمكن أن نرى شباب يتشاجرون بينهم مثلا وأب متسلط كذلك، لكن بعض المشاهد التي ظهرت في المسلسل تبقى غير مألوف لدى الجمهور المغربي.
وذكرت أن رؤية أم بلطجية كما يطلق عليها المصريين؛ غير موجودة بهذا الشكل في الثقافة المغربية، مشيرة إلى أنه بصراحة كان من الممكن أن تصور اللقطة بطريقة أخرى، لأن في مجتمعنا للأب والأم قدسيتهما، حيث من الممكن فقط الاكتفاء برفع اليد، ما يدفع كل الأبناء للزم حدودهم ومراجعة قراراتهم وذلك دون استعمال السلاح.
ولفتت إلى أنه بهذا المسلسل هناك استباحة كبيرة للألفاظ البذيئة وكذا السلاح، موضحة أنه كان من الممكن من القناة التي تعرض العمل أو المشرفين على الفيلم تحديد السن للمتفرجين، لكي لا ندخل في نقاشات تأثيرها على الناشئة وكل ما يرتبط بذلك، مبرزة أنه عبر التلفاز ليس للمتفرج الحق في اختيار ما يعرض له؛ فيما اختياره يقتصر فقط على تحديد ما يشاهد وليس العكس.
بالنسبة لتشجيع البلطجة في الدراما، ترى بوشفر أنه يجب محاربة هذا النوع من الممارسات وتوعية المجتمع من خلال المسلسل بالعواقب الوخيمة التي يمكنها أن تؤثر على الناشئة وليس العكس.
وأضافت أنه كان الأًولى من هذا العمل الفني؛ الدعوة لإحداث مراكز لاستقطاب هؤلاء الأمهات المنحرفات وإعادة إدماجهن في المجتمع عن طريق توفير دورات تعليمية تمكنهن من ولوج سوق الشغل؛ بعيدا عن الإجرام وحمايتهن هنّ وأولادهن، باعتبارنا في مثل هاته الحالات لا نعرف الظروف التي أوصلتهن لهذه الحالة والوضعية.
♦ الدراما والموروث الثقافي المغربي
يوضح إدريس القري أن الحل يكمن في استثمار التراث المغربي، سواء من الماضي أو الواقع الحاضر، لخلق أعمال درامية تحمل هوية مغربية متجذرة، ولكن بأساليب إبداعية حديثة.
ويرى الناقد والباحث في الفلسفة والفنون، أن الأصالة في المجال الفني لا تعني الجمود، بل ترتبط في الأساس بالقدرة على تطوير الهوية الثقافية وإعادة إنتاجها بطرق حديثة ومبتكرة.
وأكد على صناع الدراما المغربية، بأن النجاح العالمي لأي عمل فني ينبع أولًا من قوته المحلية، مشبهًا العملية بنمو شجرة تحتاج لجذور قوية كي تستطيع أن تمتد بفروعها نحو السماء.
وتابع المتحدث ذاته، القول إن الدراما التي لا تستند إلى عمق ثقافي وهوياتي واضح، مع الحرص على تقديم إبداع عصري، لن تكون قادرة على المنافسة أو تحقيق التأثير المنشود.
في هذا الجانب أيضا، تشير ياسيمن بوشفر إلى أن المجتمع المغربي وخاصة القرى والبوادي غنية بالقصص والحكايات التي يمكن تحويلها لدراما مغربية، مبرزة أنه من أشهر المسلسلات الدرامية بالمغرب والذي دارت أحداثه بالقرية هو مسلسل “وجع التراب” للمخرج شفيق السحيمي.
وأردفت أن هناك مسلسلات وأفلام تلفزيونية وسينمائية تستوحي قصصها من الموروث المغربي الأصيل، لافتة إلى أنه لا يجب نسيان أن المتفرج المغربي منفتح على العديد من الثقافات، ولكن تبقى هويتنا وثقافتنا متميزة ومن المفروض التعريف بها وإشهارها من خلال أعمالنا الإبداعية.