تفاءل معظم السوريين في الداخل والخارج بالنظام السياسي الجديد الذي قادته الفصائل المسلحة التي قامت بالسيطرة على الحكم بسوريا في 9 دجنبر 2024م الماضي، حيث تنفس السوريون أخيرًا نسائم الحرية مع ترقب حذر للمستقبل، بعد أن جثم على صدورهم نظام ديكتاتوري استبداي قام بسحق شعبه بكل الوسائل، حيث ملأ نظام الأسد الأب والابن السجون السورية بالآلاف المعتقلين السوريين الشرفاء، الذين كانوا في اغلبهم دعاة حرية و كرامة، لكنهم جوبهوا بالدبابات والطائرات، كما وقع في سجن تدمر 1980 ومحرقة حماة في 1982، حيث قتل حافظ الأسد من شعبه آلاف الأطفال والنساء الأبرياء بدم بارد بدعوى انتمائهم للإخوان المسلمين، ونفس الجريمة قام بها النظام الأسدي لبشار، عندما قصف الغوطة الشرقية بالأسلحة الكيماوية وتحديدا غاز السارين في غشت 2013 .
كما قام نظام المجرم بشار الأسد قبل ذلك بجرائم مروعة في الحولة في سنة 2012 م وفي درعا وجميع مناطق سوريا بدون استثناء، ويمكن هنا الرجوع للاستئناس الى عدد من اعترافات المنتسبين للنظام سابقا مثل جهاد المقدسي وعبد الحليم خدام… الذين عروا التورط المباشر لنظام الأسد في هذه الجرائم التي عجز المجتمع الدولي بقراراته توقيفها وجر المسؤول عنها الى ردهات المحاكم الجنائية الدولية، والنظام السوري تغول وقتل من شعبه ومن غيرهم، حيث اغتال عددا كبيرا من الصحفيين والإعلاميين اللبنانيين من منتسبي تيار 14 مارس في تفجيرات متعددة في كل أنحاء لبنان، كما قام باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري سنة 2004، ولم يكن النظام ليتجرأ على ذلك لولا الاحتضان الإيراني السروسي وتلكؤ، بل تواطئ العالم أجمع وسكوت قادة العالم عن هذه الجرائم بمبررات مختلفة، لكن واهية و مدانة من قبيل أن إسقاط نظام الأسد سيؤدي إلى انتصار الجماعات المسلحة مثل النصرة وداعش…
واستفاق العالم بعد الثورة السورية المسلحة في سنة 2024م على جرائم مهولة وحقائق مذهلة تتعلق بالجرائم الجسيمة التي ارتبكها نظام الأسد في سوريا وفي السجون السورية، مثل سجن صيديانا الذي يعتبر بحق مقبرة ووجوده عار على جبين الإنسانية، وتبقى التساؤلات مشرعة عمن كان يحمي فعلا نظام بشار الأسد من الملاحقات الدولية طيلة الفترة الماضية، وهل كانت دماء السوريين رخيصة الى هذا الحد؟
وهنا تبرز بشكل واضح وجلي مسؤولية نظام الملالي بإيران الذي ساهم يشكل كبير في اخماذ كل الانتفاضات والثورات التي عرفتها سوريا، واستعان النظام السوري بخطط الحرس الثوري الإيراني والأسلحة المتدفقة الى الجيش الأسدي، والتي كانت أدوات تنفيذ الجرائم بل المجازر التي نفذت ضد الأبرياء والعزل ولا يمكن أن ينسى الدور الخبيث القذر لميليشيات حزب الله التي توغلت في الدم السوري وفتكت به خصوصا في القصير، وغيرها من المدن والأرياف السورية التي ستبقى شاهدة على جرائم إيران ومليشيات حزب الله، وهنا يمكن الرجوع إلى مذكرات وزير الخارجية الإيراني السابق الذي اغتالته إسرائيل حسين أمير عبد اللهيان في مذكراته “صبح الشام” الذي كشفت بشكل جلي واضح الدعم الإيراني اللامحدود لنظام سوري لاشعبي ولا ديمقراطي لخدمة أجندة مشتركة إيرانية وإسرائيلية في نفس الوقت؛ إذ أنه من مفارقات نظام الأسد في سوريا أنه يستمد قوته وحمايته من متناقضين إيران وإسرائيل طيلة فترة حافظ الأسد وابنه.
وأما النظام الروسي فجرائمه لا تعد ولا تحصى و طيرانه و أسلحته المدمرة كانت جحيما على رؤوس الأطفال والنساء السوريات الذين لم يجدوا سندا دوليا حقيقيا يقيهم من شر الأسد وزبانيته وحلفائه الدوليين، وهنا لابد من التنوية بالموقف الخليجي والتركي المميز من الثورة السورية وخصوصا الدعم السياسي القطري و السعودي… أما الأمريكان والأوروبيين فكان موقفهم إيجابيا في بداية الثورة السورية سنة 2011، لكنه اضمحل مع مرور الوقت وقاموا بإعطاء تفويض ضمني للنظام الروسي ليقضي على الثورة السورية بأسرع وقت ممكن لكن” يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين” صدق الله العظيم .
ويوم الأربعاء 28 يناير 2025 ألقى الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع الملقب بأبو محمد الجولاني خطاب انتصار الثورة السورية، وكباقي خطابات القادة الجدد “المحررين” فهو خطاب يحمل التفاؤل للشعب السوري ويحمل وعودا بالدمقرطة وحقوق الانسان، لكن التجارب الإنسانية تستوجب علينا اليقظة والحذر من خطابات السياسيين حتى يحكم عليها الواقع والميدان، لذلك أجدني متفق تماما مع عدد من المثقفين والمفكرين السوريين أمثال برهان غليون وعبد الباسط سيدا، الذين استبشروا خيرا بسقوط النظام الأسدي بسوريا دون أن تمنعهم تجاربهم السابقة من إبداء بعض الملاحظات وإرسال بعض الإشارات الى القيادة الجديدة، ومنها ضرورة الابتعاد عن المحاصصة الطائفية وضرورة اعتماد مقاربة انصافية دون عقلية الانتقام، والإسراع باعداد وثيقة دستورية تقطع مع الحكم الفردي والاستبداد السياسي.
والانتقال السياسي نحو الديمقراطية في سوريا مبتغى وهدف كل السوريين الذين ذاقوا مرارة القمع والطغيان، لكن ثمة عدة محاذير ومشاكل يمكن ان تعترض سفينة الدمقرطة بسوريا وهي داخلية وخارجية.
-داخليا:
-من الصعب جدا في فترة وجيزة استئصال وتجفيف كل مستنقعات النظام الأسدي البائد لانه نظام تقوى وترسخ بجميع الاشكال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والطائفية وأي تغيير جذري دون تأهيل حقيقي متدرج للشعب سيؤدي الى جيوب مقاومة للتغيير والى مشاكل في الاندماج مع المعطيات السياسية الجديدة.
– ليس كل ثورة هي تغيير نحو الأفضل بالضرورة لان الميدان والواقع والمنجزات هي الميدان لذلك يجب الحرص كل الحرص على اعداد دستور ديموقراطي يجمع جميع الطوائف والحساسيات والتوجهات الفكرية والسياسية والانتقال من منطق الحزب والتنظيم المسلح الى منطق الدولة بصعوباتها وتوافقاتها الضرورية.
-القطع مع النظام المشخص في فرد مهما بلغ هذا الفرد من الشعبية والنزاهة، فالدستور والقوى السياسية الجديدة والجيش يجب ان لايعيد نسخ تجربة الحكم الفردي وتأليه القائد بل يجب الحرص على لا تكون الفترة الانتقالية فترة لتوطيد دعائم شخص انما هي فرصة لترميم الدولة ومؤسساتها.
-خارجيا:
-الأنظمة الانتقالية التي تصبو الى الديمقراطية لا يكون طريقها مفروشة بالورود بل هي محفوفة بالألغام والأشواك، فإقامة نظام ديمقراطي لا طائفي بسوريا معناه إعطاء نموذج للشعب اللبناني الذي ما يزال يعيش في أتون الطائفية المقيتة وانعدام الاستقرار السياسي بفعل التدخلات الخارجية التي أضعفت الدولة ومؤسساتها وإن كنا نرى أن انتخاب رئيس توافقي من طينة جوزيف عون يعتبر مؤشرا إيجابيا نحو دولة لبنانية مستقلة وقادرة على مواجهة الصعاب.
-هل ستترك إسرائيل وتركيا وإيران نظام ديموقراطي تعددي على مشارف حدودها، هل ستقبل إسرائيل بنظام سوري مستقل وقوي شعبيا، هل ستقبل تركيا بنظام ديموقراطي تعددي منفتح ينافسها على الريادة في المنطقة؟
أما ايران فمن المؤكد أنها ستعمل بكل ما تستطيع من أجل استرداد هيبتها بالمنطقة عبر التقية السياسية والخبث الدبلوماسي أو عبر افتعال القلاقل والأزمات الداخلية، لذلك على الشعب السوري أن يستعد جيدا لحماية ثورته داخليا وخارجيا عبر تقوية المؤسسات التمثيلية واطلاق الحريات العامة والإسراع بإنشاء جيش سوري موحد قادر على ردع العدوان وحماية المكتسبات وتحصين أفكار الثورة الحقيقية.
ونتمنى خيرا للشعب السوري بكل تياراته ومكوناته، ليعود كما كان في التاريخ التليد شعب الحضارة والنخوة والاباء، وشعب المثقفين والمفكرين والعلماء.
- الدكتور أنغير بوبكر، باحث في تاريخ العلاقات الدولية

