أطلقت الحكومة جولة جديدة من الحوار الاجتماعي، أمس الثلاثاء، بدعوة من رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، وذلك في سياق يتسم بتنامي المطالب الاجتماعية وتزايد التحديات الاقتصادية التي تواجهها فئات واسعة من الأجراء والمتقاعدين.
وشكل اللقاء مناسبة لتجديد النقابات التأكيد على ضرورة تحسين القدرة الشرائية، من خلال الرفع من الأجور والمعاشات، مقابل تشديد الحكومة على أهمية الحفاظ على التوازنات المالية وإتمام إصلاح نظام التقاعد.
كما أعادت النقابات المطالبة بإخراج قانون تنظيمي للإضراب في إطار تشاوري يضمن الحقوق النقابية، إلى جانب إلغاء الفصل 288 من القانون الجنائي، معتبرة أن تحيين الإطار القانوني للعمل النقابي أصبح ضروريا لتعزيز مناخ الحريات.
الاتحاد العام للشغالين يدعو الحكومة إلى حوار اجتماعي مثمر ومسؤول قبل فاتح ماي
ورغم إشارات الانفتاح التي صدرت عن الحكومة، لم تُسفر الجولة الحالية عن إعلان تدابير ملموسة، ما أفرز ردود فعل متباينة داخل الأوساط النقابية، التي دعت إلى ترجمة الالتزامات إلى إجراءات عملية.
ويُرتقب أن تُستأنف المشاورات في الأسابيع المقبلة في أفق التوصل إلى اتفاق يراعي متطلبات المرحلة، وسط تساؤلات حول مدى استعداد مختلف الأطراف لتقديم تنازلات متبادلة تضمن التوازن بين العدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي.
♦إقصاء بصيغة رسمية
قال محمد النحيلي، نائب الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للشغل، إن تغييب المنظمة عن جولات الحوار الاجتماعي سواء الأخيرة أوسابقاتها، لم يكن نتيجة قرار ذاتي برفض المشاركة، وإنما بسبب إقصاء ممنهج طال أصواتًا نقابية تُعد من بين أكثر المكونات تمثيلية للطبقة العاملة المغربية.
ويرى نائب الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للشغل في تصريح لجريدة “شفاف”، أن الحكومة الحالية، كما سابقاتها، لا تزال تصر على حصر الحوار في دائرة ضيقة تضم فقط النقابات المحسوبة على الأغلبية الحكومية، مما يفرغ اللقاءات التشاورية من مضمونها الحقيقي ويقوض مبادئ الشراكة الاجتماعية.
وأوضح النحيلي أن المنطلق القانوني الذي تستند عليه الحكومة لتبرير انتقائيتها، والمتعلق بمفهوم “الأكثر تمثيلية”، يفتقد للوضوح التشريعي والدستوري، حيث إن قانون النقابات، الذي من المفترض أن يحدد معايير التمثيلية، لم يصدر بعد رغم توصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وظل مطلب إخراجه إلى الوجود مؤجلاً.
الكونفدرالية تنتقد تعثر الحوار الاجتماعي وتطالب بتفعيل الالتزامات الحكومية
وأكد النقابي أن اعتماد الحكومة على مقتضيات مدونة الشغل، التي تسري على القطاع الخاص وبعض القطاعات الإدارية ذات الطابع التجاري، لا يبرر إقصاء النقابات التي تمثل شريحة واسعة من موظفي القطاع العام.
ويبين المتحدث أن هذا الإقصاء الممنهج لا يهدف فقط إلى تقليص الحضور النقابي الحر، بل إلى إسكات كل صوت نقدي يناهض السياسات الحكومية اللاشعبية.
وأضاف أن المنظمة الديمقراطية للشغل، رغم تغييبها من طاولة الحوار، حاضرة في المشهد الوطني، وتشارك بفعالية في اللقاءات التي يشرف عليها جلالة الملك، والتي يُعترف فيها بدور النقابات الجادة، دون أن يُذكر فيها قط مفهوم “الأكثر تمثيلية”، مما يدل على أن هذا المفهوم يُستخدم فقط في السياقات التي تسعى فيها الحكومة إلى التحكم في مخرجات الحوار الاجتماعي.
♦حوار بلا جدوى
وفي السياق ذاته، انتقد النحيلي مخرجات الجولة الأخيرة من الحوار، قائلاً إن أغلب النقابات التي حضرت خرجت ممتعضة من جلسات لم تفضِ إلى أي نتائج ملموسة لصالح الأجراء.
وأكد أن ما تم الترويج له بخصوص تحسين الأجور أو إصلاح أنظمة التقاعد لم يرقَ إلى مستوى تطلعات الطبقة العاملة. ومضيفا أن الحكومة تستمر في اعتماد خطاب شعاراتي، يفتقر إلى الإرادة الحقيقية لمعالجة جذور الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي ترزح تحتها شريحة واسعة من المواطنين.
وأشار النقابي إلى أن جوهر الحوار الاجتماعي، كما تنص عليه التوجيهات الملكية، يتمثل في كونه رافعة للتنمية والعدالة الاجتماعية، وأداة لإرساء السلم الاجتماعي عبر ميثاق اجتماعي متوافق عليه. إلا أن ما يجري اليوم، حسب تعبيره، هو محاولة ممنهجة لتحويل الحوار إلى منصة شكلية تُستخدم لتلميع صورة الحكومة دون الالتزام الفعلي بتنفيذ أي من مطالب الشغيلة.
الاتحاد المغربي للشغل يطالب بزيادة الأجور وتحسين وضعية العمال في الحوار مع الحكومة
واستدل النحيلي في تصريحه على افتقاد الحوار للشرعية بالقول إن الحكومة تتعامل مع الملف النقابي من موقع فوقي، حيث تُمرر قوانين خطيرة كقانون الإضراب خارج منهجية التوافق مع الشركاء الاجتماعيين.
واعتبر أن تمرير مشاريع قوانين مصيرية، من قبيل إصلاح التقاعد وتقييد الحق في الإضراب، عبر البرلمان دون تشاور حقيقي، هو ضرب لمبدأ الحوار في الصميم، وتجسيد لتوجه سلطوي يستهدف تقويض الحريات النقابية.
♦قمع تحت الحوار
وفي الإطار ذاته، توقف النحيلي عند نقطة حساسة، تتعلق بالاستفسارات التي بعثت بها وزارة التشغيل مؤخرًا إلى موظفين شاركوا في الإضرابات، معتبرا أن هذه الممارسة تنسف كل مصداقية للحوار الاجتماعي الجاري، إذ لا يعقل أن تُعقد لقاءات تشاورية بالتزامن مع إجراءات زجرية ضد الحق الدستوري في الإضراب.
وشدد على أن التوقيت الذي اختير لإرسال هذه الاستفسارات – بالتزامن مع جولة أبريل من الحوار – يفضح النوايا الحقيقية للحكومة، ويُظهر أن ما يُسمى بالحوار ليس سوى غطاء لإجراءات استبدادية تُمارَس تحت الطاولة.
واعتبر أن الزيادة الأخيرة في الأجور، التي أعلن عنها في أبريل 2024 والمقسمة على دفعتين بمقدار 500 درهم لكل دفعة، لا تعكس حجم المعاناة الاجتماعية ولا تعادل التدهور المتواصل في القدرة الشرائية، خاصة في ظل الارتفاع المتسارع لأسعار المواد الأساسية.
وأكد أن الحكومة، بدل أن تعمد إلى زيادات رمزية، كان من المفروض أن تضاعف مجهودها المالي وترفع الحد الأدنى للزيادة إلى 2000 درهم، لضمان الحد الأدنى من الكرامة للعاملين في القطاع العام.
كما انتقد استمرار تجميد معاشات المتقاعدين، مشيرًا إلى أن الحد الأدنى لهذه المعاشات يجب أن يُراجع بما يضمن التناسب مع الحد الأدنى للأجور، حمايةً لهذه الفئة التي تعاني من التهميش.
وقال النقابي إن الإعفاءات الضريبية التي طُبقت على جزء من الأجور، ماهي إلا مجرد إجراءات دعائية لم تترك أي أثر مادي ملموس على جيوب الشغيلة، حيث لم يستفد منها فعليًا سوى من تتجاوز أجورهم سقف الضريبة.
♦إصلاح بلا محاسبة
وفيما يخص مسألة التقاعد، أكد النحيلي أن المنظمة لا ترفض مبدأ الإصلاح، لكنها ترفض بشدة أن يتم تحميل الأجراء وحدهم كلفة هذا الإصلاح، بينما يتم إعفاء الجهات التي ساهمت في إفراغ صناديق التقاعد من المحاسبة.
وأوضح النقابي أن المقاربة المعتمدة حاليا تفتقد للعدالة، حيث يتم اختزال الأزمة في الأجراء دون الحديث عن الاختلالات البنيوية وسوء التدبير الذي أوصل الصناديق إلى حافة الإفلاس.
وذكّر المتحدث بأن المسؤولية الدستورية تُحتّم ربط المسؤولية بالمحاسبة، وأنه لا يمكن القفز على هذه القاعدة من خلال اتخاذ قرارات أحادية ترهن مصير الأجراء.
وطالب بإجراء تحقيق مستقل حول الجهات التي أفسدت أنظمة التقاعد، ودعا إلى تبني إصلاح حقيقي وعادل تتحمل فيه الدولة النصيب الأكبر من الكلفة، لا أن يُحمّل الأجراء مرة أخرى عبء الفشل.
♦حريات بلا ضمانات
وبشأن الحريات النقابية، شدد النحيلي على أن تفعيل قانون الإضراب يجب أن يتم ضمن توافق وطني واسع، لا في سياق فرض شروط تعجيزية تهدف إلى تكميم الأفواه وتقييد الحركات الاحتجاجية.
وأكد أن الفصل 288 من القانون الجنائي، الذي يُستخدم لتجريم العمل النقابي، لا مكان له في منظومة قانونية تسعى إلى تعزيز الحقوق والحريات، وطالب بإلغائه فورًا باعتباره أداة للترهيب والتضييق على النقابيين.
وأبرز أن المغرب مدعو اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى الانخراط الجاد في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالحريات النقابية، وإزالة كل التحفظات التي تُقيد التزامات البلاد.
وأبان أن الخطابات الرسمية التي تتغنى بحقوق الإنسان يجب أن تُترجم إلى سياسات واقعية تنعكس على الأرض، لا أن تبقى حبيسة التصريحات الموسمية.
وعبّر النحيلي عن أسفه العميق من طابع اللقاءات الحكومية الموسمية، التي تنعقد في أبريل من كل عام، والتي تحوّلت، حسب تعبيره، إلى طقوس إعلامية موسمية تُعقد بمناسبة فاتح ماي أو الدخول السياسي، دون أن تفضي إلى مأسسة حقيقية للحوار الاجتماعي.
وشدد أن غياب مرجعية قانونية واضحة ينظّم هذا الحوار، واستمرار التعامل معه بمنطق انتقائي وظرفي، هو ما يجعل مصداقيته في مهب الريح.
ودعا الحكومة إلى التفاعل الجدي مع مطالب الشغيلة، والانخراط في حوار اجتماعي حقيقي مبني على قواعد الشراكة والاحترام المتبادل، باعتباره السبيل الوحيد لبناء دولة اجتماعية عادلة، وضمان السلم الاجتماعي، وتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة.