عاد النقاش إلى الواجهة داخل الأوساط المغربية حول التأثيرات السلبية لظاهرة “المؤثرين” على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أضحت محط جدل بسبب ما ينتشر عن طريقها من إساءات لفظية وسب وقذف، بالإضافة إلى نشر محتوى مسيء يخالف القيّم المجتمعية.
وهذا الجدل تعزز بعد إصدار المحكمة الزجرية بعين السبع بالدار البيضاء أحكامًا بالسجن النافذ على كل من “ولد الشينوية” و”بنت عباس”، حيث تم إدانتهما بتهم التشهير والإساءة عبر المحتوى الرقمي، إلى جانب تهم إضافية شملت الهجوم على ملك الغير وإحداث الفوضى داخل مرفق أمني.
♦ أسباب استمرار الظاهرة
اعتبر زكرياء أكضيض، أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاضي عياض بمراكش، أن الحقل الرقمي بالمغرب الذين يبرز فيه ما يمكن تسميتهم بالفاعلين الرقميين بحكم نشاطهم في هذا العالم؛ يبقى غير خاضع ومنضبط بشكل كبير للقواعد والقيم التي تحكم المجتمع المغربي.
وقال أكضيض في تصريح لجريدة “شفاف”، إن هذا الانفلات الرقمي يتيح لبعض الأفراد انتهاك الخصوصيات الثقافية والمعايير الأخلاقية دون الإحساس بالمسؤولية، مبرزا أن هذا الأمر يختلف جذريًا عن السلوك الملتزم الذي يظهره هؤلاء الأفراد في حياتهم اليومية.
وعزا أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاضي عياض بمراكش، ما يقع من انتشار لسب وشتم وتهديد على مواقع التواصل الاجتماعي بالمغرب إلى التحولات الرقمية العميقة التي جعلت التكنولوجيا تنفذ إلى مختلف مناحي الحياة، دون أن يواكب ذلك تبلور استعدادات قيمية وأخلاقية كافية للتعامل المسؤول مع هذا الحقل الجديد.
وأردف أن المحاكمات التي جرت في هذا الإطار بخصوص “ولد الشينوية” وغيرها من الشخصيات السائرة على دربه بمواقع التواصل الاجتماعي؛ غايتها بالأساس جعل الفاعلين داخل العالم الرقمي مسؤولين تجاه ما يتصرفون به في نشاطهم عبر ما يصنعونه على مستوى محتوياتهم الرقمية.
وشدد على أن صدور مثل هذه العقوبات يبقى الهدف منه تفادي جعل العالم الرقمي ببلادنا منفلت عن سلطات كل من الدولة والمجتمع والأخلاق، موضحا أنه من ضمن الأسباب الفاعلة في هذا الأمر هو أنه لحد الآن ليست لدينا استعدادات قيمية أو أنها في طور التشكل داخل مجتمعنا.
ولفت إلى أن من يشار لهم اليوم بـ”المؤثرين” في العالم الرقمي بالمغرب يحملون رهانات مختلفة ذات طابع ربحي واقتصادي؛ والتي ترتبط فعليا بالرفع من نسبة مشاهدة المحتوى الخاص بهذه الفئة، وهو ما يدفعهم لتجاوز جميع الخطوط الحمراء الأخلاقية والمجتمعية؛ وذلك في سبيل تحقيق غاياتهم الشخصية.
وشدد على أن غياب هذه الاستعدادات القيمية المرتبطة باحترام الآخر وعدم تجاوز الشخص لحدود حرية التعبير الممنوحة له والمتعارف عليها إلى التعدي لفظيا على الطرف الثاني؛ جعلت العالم الرقمي ببلادنا مجالًا مفتوحًا لتنافس حاد بين الفاعلين الرقميين، ما دفع بهذه الفئة للتحرك وفق رهانات متباينة، والتي قد تكون أيديولوجية أو ربحية، مما عزز من الظواهر السلبية مثل التشهير والسب والقذف.
♦ آليات معالجة الظاهرة
يشدد زكرياء أكضيض على ضرورة الجمع بين المقاربة القانونية ونظيرتها التربوية، باعتبارها الآلية الكفيلة بمواجهة ومحاربة ظاهرة السب والقذف والإساءة للغير وتكريس هذا السلوك المشين لدى الناشئة؛ والتي يفرزها التعامل السيء والعمدي لبعض الفاعلين الرقميين مع مواقع التواصل الاجتماعي.
وأبرز أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاضي عياض بمراكش، أن القانون وحده لا يكفي للحد من الانفلات الرقمي، خاصة مع وجود جيل جديد من المستخدمين الرقميين بحاجة إلى تأطير أخلاقي وقيمي منذ الطفولة، مشيرا إلى أنه في هذا الجانب تأتي أهمية الأسرة والمدرسة كمؤسسات رئيسية في بناء تربية رقمية فعالة لدى الجيل الصاعد.
وأكد على أهمية إدماج التربية الرقمية في المناهج التعليمية، بالإضافة إلى تعزيز دور الأسرة والمجتمع المدني في خلق استعدادات قيمية متينة لدى الناشئة والشباب على الخصوص، وباقي فئات وشرائح المجتمع عموما، من أجل تجاوز الإشكاليات التي يطرحها العالم الرقمي الذي يشهد متغيرات متسارعة؛ تفرض اتخاذ إجراءات استباقية لحماية المجتمع.
وأشار إلى أن المقاربة القانونية المرتبطة بالزجر والعقوبات السجنية تهم بالأساس الأشخاص الراشدين ممن لهم مسؤولية كاملة تجاه تصرفاتهم، ولكن الرهان على مستوى كيفية التعامل مع العالم الرقمي هو رهان يرتبط بالجيل الجديد؛ ما يفرض جليا العمل بدرجة أولى وفق المقاربة التربوية التي تبقى أكثر فعالية في هذا الجانب.
وأوضح أن التركيز على الجانب التربوي والتعليمي، سيمكن لاحقًا من تفعيل المحاسبة القانونية على الأفراد الرقميين، حيث سيكونون وقتها يحملون وعيًا ومسؤولية تُجاه أفعالهم، إذ بذلك يمكن تقليص الفجوة بين القيم المجتمعية والسلوكيات الرقمية بما يضمن انسجامًا أكبر بين العالمين، ومعه القدرة على معالجة الانزلاق الأخلاقي الواقع في مواقع التواصل الاجتماعي بالمغرب.