تشهد واحات الجنوب الشرقي خصوصا تلك التي تتواجد بإقليم الراشيدية أزمة مائية متفاقمة تهدد استدامتها الفلاحية، حيث باتت الأساليب التقليدية للري غير قادرة على مواجهة التغيرات المناخية والجفاف المستمر.
ففي الماضي، كانت الخطارات والسواقي توفر المياه بوفرة للواحات، لكن اليوم أصبح الاعتماد على الآبار ضروريًا، وسط قيود مشددة على توزيع المياه.
ورغم محاولات تنظيم السقي عبر أنظمة أكثر إنصافًا، فإن ندرة المياه باتت تهدد الإنتاج الزراعي، حيث تراجعت محاصيل القمح والشعير، بينما يكافح النخيل والزيتون للبقاء.
ومع تزايد الضغط على الموارد المائية، يُطرح اعتماد تقنيات حديثة مثل السقي بالتنقيط كحل ضروري للحفاظ على ما تبقى من الأراضي الخصبة.
ومن جهة أخرى، تؤكد أصوات محلية أن الحفاظ على الواحات يتطلب رؤية متكاملة تشمل تنظيم الموارد المائية، وتعزيز مشاريع السدود التحويلية، واستثمار الطاقة الشمسية في استخراج المياه.
ومع استمرار الجفاف وهجرة السكان نحو المدن، يبقى السؤال معلقاً: هل ستجد الواحات طريقاً يضمن استدامتها، أم أن العطش سيحسم مصيرها؟
♦العطش يلتهم الواحات
لا تخفي فاطمة، فلاحة وإحدى ساكنة واحة بوذنيب، قلقها من التحولات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة، خاصة في ظل الجفاف المستمر الذي ألقى بظلاله الثقيلة على الموارد المائية وأساليب الري التقليدية.
وهي تتحدث لجريدة “شفاف” عن الواحة بحسرة وبنبرة يغلب عليها الحنين لما كان عليه الحال سابقًا، حينما “كانت الخطارات والسواقي توفر كميات كافية من المياه لري المزروعات”، لكن الجفاف لم يترك لهذه المصادر أي فرصة للبقاء، مما دفع الساكنة إلى اللجوء إلى الآبار كحل أخير.
توضح فاطمة أن “المياه التي يتم استخراجها اليوم من الآبار تُوجّه عبر السواقي، لكن الوضع ليس كما كان عليه في السابق، حيث أصبح توزيع المياه يخضع لنظام تناوبي، بحيث يحصل كل فلاح على فترة محددة لري أرضه”، وهو ما فرض قيودًا إضافية على الإنتاج الزراعي.
وتبين المتحدثة، أن الواحة اليوم ليست قادرة على إنتاج القمح والشعير بنفس الوفرة السابقة، وبقي النخيل والزيتون صامدا رغم تراجع مردوديتهما، مضيفة أن آثار فيضانات 2009 ما زالت قائمة، إذ تسببت في تراكم الطمي والشوائب داخل السواقي، مما أثر على قدرة التربة في تخزين المياه، وجعل مسألة الري أكثر تعقيدًا.
وفي ظل هذه التحديات، تقول فاطمة يبقى الدور الذي يلعبه شيوخ القبائل على توزيع المياه حاضرًا ومهما، رغم التغيرات المناخية التي طرأت على الواحة، حيث لا يزالون ينظمون عمليات تنظيف السواقي من الأتربة والمخلفات عبر ما يُعرف بـ”حد الصايم”، وهو تقليد يجمع أبناء الواحة في يوم تطوعي لتنظيف قنوات المياه وضمان تدفقها بشكل سلس.
ومع ذلك، ترى فاطمة أن هذه الحلول التقليدية وحدها لم تعد كافية، مشددةً على ضرورة البحث عن بدائل أكثر استدامة للحفاظ على الواحة من التدهور.
فاطمة بوطاهر، وهي فلاحية في نفس المنطقة، تؤكد من جانبها أن المياه هي مفتاح استمرار الحياة الفلاحية، ولا تخفي قلقها من سوء تدبير هذه الثروة الحيوية.
وتوضح فاطمة في حديثها مع الجريدة، أن “الواحات التقليدية والحديثة التي تُميز بوذنيب تعتمد بشكل كامل على الموارد المائية، ما يجعل الحفاظ عليها مسؤولية مشتركة بين الجميع”.
بالنسبة لبوطاهر، لا يكفي الحديث عن الأزمة، بل يجب التصرف بسرعة، قائلة: “الفلاحون، سواء كانوا يملكون ضيعات صغيرة أو كبيرة، مطالبون باعتماد تقنيات حديثة للري، مثل السقي بالتنقيط، للحد من هدر المياه وضمان استدامتها للأجيال القادمة”، مضيفة “نحن ورثنا هذه الواحات عن أجدادنا، وعلينا أن نسلمها سليمة لأبنائنا”.
أما علا موحى، وهو فلاح من قصر الطاوس بمدينة بودنيب، فلا يحتاج إلى الكثير من الكلمات ليصف واقعًا صعبا يعيشه يوميًا عبر تأكيده أن “الوضع تغير بالكامل”.
ويقول الفلاح للجريدة بنبرة يغلب عليها الإحباط: “في الماضي، كنا ننتج ما يكفي من المنتجات الزراعية للاستهلاك والتسويق، أما اليوم فنحن بالكاد نزرع ما يسد حاجتنا فقط”.
المشكلة الأكبر، في رأي موحى، هي ندرة المياه، فقد تمر فترات طويلة تصل إلى 36 يومًا دون أن تصل المياه إلى الواحة، مما يهدد حياة الفلاحين ومحاصيلهم؛ “لا يمكننا الاستمرار بهذه الطريقة”، يؤكد علا موحى، قبل أن يدعو الجهات المعنية إلى إيجاد حلول عاجلة لضمان تزويد الواحة بالمياه، لأن “الحياة هنا تعتمد عليها بالكامل”.
♦الري.. حلول مبتكرة
أكد علا يوسف، رئيس جمعية التوافق لمستعملي المياه للزراعة والسقي، أن تأسيس الجمعية كان خطوة حاسمة نحو تنظيم توزيع الموارد المائية بشكل أكثر إنصافًا وعقلانية في منطقة قدوسة.
وأوضح رئيس جمعية التوافق لمستعملي المياه للزراعة والسقي في تصريح لجريدة “شفاف”، أنه قبل إنشاء الجمعية، كان تدبير المياه يتم بشكل عشوائي، مما أدى إلى مشاكل عديدة بين الفلاحين، حيث كان البعض يقطع الماء عن الآخرين، أو يستغل كميات تفوق حاجته دون مراعاة لمتطلبات باقي المستعملين.
وأضاف المتحدث أن الجمعية عملت على تنظيم السقي وفق نظام “الربطة بربطة”، وهو ما ساهم في الحد من النزاعات وتحقيق توازن في توزيع المياه، مشيرًا إلى أن الالتزام بهذا النظام يفرض على كل مستفيد تنظيف المصرف الخاص به بشكل منتظم، وعدم تجاوز حصته المحددة، حفاظًا على حقوق باقي الفلاحين، مشددا على أن إغلاق الربطة بعد الانتهاء من السقي بات أمرًا أساسيًا، لتجنب تسرب المياه وإهدارها دون فائدة.
وأبان رئيس الجمعية أن الهدف الأساسي لهذا التدبير هو ضمان استمرار النشاط الفلاحي في المنطقة، خاصة وأن المياه تعد المورد الأساسي لاستدامة الزراعة.
وأشار المتحدث إلى أن الجمعية تحرص على تنظيم دورات توعوية للفلاحين من أجل تعزيز ثقافة ترشيد استهلاك المياه، وتبني تقنيات حديثة تضمن تقليل الهدر وتحسين الإنتاجية.
ويرى علا يوسف أن الحفاظ على المياه مسؤولية جماعية، تتطلب وعيًا وتعاونًا مستمرًا من جميع الفلاحين، من أجل ضمان استدامة النشاط الزراعي في قدوسة وحماية الموارد المائية للأجيال القادمة.
♦الماء.. حياة الواحات
حذر يوسف كراوي، الفاعل الجمعوي وأحد سكان قصر طاوس بجماعة واد النعام ببودنيب، من التحديات التي تواجه الواحات في ظل تراجع الموارد المائية، مؤكدًا أن ندرة المياه قد تدفع السكان إلى الترحال والهجرة، وهو ما يهدد التوازن البيئي والاجتماعي في المنطقة.
وأشار كراوي في تصريح لجريدة “شفاف”، إلى أن قصر الطاوس، الواقع أسفل سد قدوسة على الضفة اليمنى لواد غريس، يعتمد بشكل أساسي على الموارد المائية، موضحًا أن أي تراجع في هذه الموارد يؤثر مباشرة على استقرار الساكنة وعلى استمرارية النشاط الزراعي الذي يعد عصب الحياة في الواحات.
وفي هذا السياق، شدد على ضرورة اتخاذ إجراءات عملية للحفاظ على هذه الثروة الحيوية، مشيرًا إلى أهمية اختيار زراعات تتكيف مع ندرة المياه، والاقتصاد في استهلاكها عبر توجيه الري إلى الأراضي المزروعة والأشجار فقط، مع تجنب هدر المياه في المناطق القاحلة، داعيا إلى منح الأولوية لسقي المناطق القريبة من منابع المياه، وتأجيل ري المساحات البعيدة إلى حين تحسن الوضع المائي.
ولم يغفل كراوي التأكيد على أهمية التقنيات الحديثة في الحفاظ على الموارد المائية، مشيرًا إلى أن اعتماد الري بالتنقيط يمكن أن يكون حلاً فعالًا للحد من الاستهلاك المفرط للمياه.
كما دعا الفلاحين إلى غرس ثقافة الحفاظ على الواحات في نفوس أبنائهم، حتى تستمر هذه المنظومة البيئية التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من هوية سكان الجنوب الشرقي.
وفي الأخير، أكد كراوي على أن الواحات ليست مجرد مساحات خضراء، بل هي إرث طبيعي واجتماعي يجب حمايته من الاندثار، داعيًا كافة الفاعلين المحليين وسكان المنطقة إلى تحمل مسؤوليتهم في الحفاظ على هذه الثروة التي تشكل دعامة أساسية للحياة في الجنوب الشرقي.
♦الواحات.. حلول جذرية
أكد داود فانيسي، متخصص في الواحات والمهندس الزراعي المتقاعد من المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي لتافيلالت، أن الواحات المغربية تواجه تحديات حقيقية بفعل التغيرات المناخية والاستغلال المفرط للموارد المائية، وهو ما يهدد توازن هذا النظام البيئي الفريد.
وأوضح فانيسي في تصريح لجريدة “شفاف” أن الجفاف الذي شهدته المنطقة على مدى السنوات الست الماضية أثر بشكل مباشر على الفرشة المائية، حيث أصبحت العيون والينابيع التي كانت تغذي الواحات، مثل “عين مسكي”، في تراجع مستمر، مضيفا أن تدفق السيول الموسمية، التي كانت تعيد الحياة للواحات، أصبح نادراً بفعل غياب التساقطات الكافية.
وعن تدبير المياه، قال الفلاح: “في الماضي، كان الفلاحون أكثر وعيًا بضرورة الاقتصاد في المياه، وكان يتم توزيعها وفق نظام مضبوط يضمن استفادة الجميع، واليوم هناك نوع من الفوضى في الاستغلال، حيث انتشرت الآبار العشوائية بشكل كبير، مما أدى إلى استنزاف الفرشة المائية بشكل أسرع مما كان عليه في فترات الجفاف السابقة.”
وأشار إلى أن التوسع في الزراعات الحديثة، خاصة في منطقة بوذنيب، ساهم في زيادة الضغط على الموارد المائية، إذ تعتمد هذه الزراعات على الفرشة المائية العميقة التي تحتاج إلى ضخ مستمر، مبرزا أن الفلاحين يجدون أنفسهم في مواجهة معضلة حقيقية، بين ضرورة الاستمرار في الإنتاج الفلاحي وبين ندرة الموارد المائية المتاحة.
وفيما يخص الحلول الممكنة، شدد فانيسي على أهمية العودة إلى أنظمة الري التقليدية لكن بتطويرها لتتلاءم مع التقنيات الحديثة، بالإضافة إلى تعزيز مشاريع السدود التحويلية التي تساعد في تغذية الفرشة المائية، مشيراً إلى أن بعض المشاريع، مثل الآبار الجماعية التي تعمل بالطاقة الشمسية، قد تساهم في تحقيق توازن أفضل في تدبير المياه.
ولفت المتحدث إلى أن إحدى الإشكاليات الكبرى التي تهدد الواحات اليوم ليست فقط المناخ أو نقص المياه، ولكن أيضاً هجرة الشباب من القرى إلى المدن، ما يجعل الواحات مهددة بالاندثار بسبب نقص اليد العاملة الفلاحية، مما يؤدي بدوره إلى تدهور البنية البيئية للواحات وارتفاع مخاطر الحرائق.
وأنهى الفلاح قوله: بأنه “رغم كل التحديات، يبقى الأمل قائمًا، خاصة مع عودة الأمطار خلال الفترة الأخيرة، لكن الاستمرار في هذا المسار يتطلب وعيًا جماعيًا بأهمية الحفاظ على هذه الواحات، ليس فقط باعتبارها مصدر عيش، ولكن كإرث طبيعي وثقافي لا يقدر بثمن.”
في النهاية، يبقى التحدي الأكبر أمام سكان الواحات بجهة درعة تافيلالت هو كيفية التكيف مع ندرة المياه دون أن تفقد الواحة روحها؛ ومع استمرار الجفاف وتأثيراته المتزايدة، يظل السؤال معلقًا: هل ستجد المنطقة حلولًا تحفظ لها حياتها الفلاحية، أم أن العطش سيفرض كلمته الأخيرة على الواحة؟