يعتزم المغرب فتح ملف مراجعة اتفاقية التجارة الحرة الموقعة مع تركيا، في خطوة تهدف إلى تقليص العجز التجاري المتنامي بين البلدين، وفتح المجال أمام تدفق أكبر للاستثمارات التركية داخل المملكة، وفق ما كشفه مصدران مطلعان لوكالة “رويترز”.
كما أن عمر حجيرة، الوزير المنتدب المكلف بشؤون التجارة، حسب المصدر ذاته، أن يعتزم القيام بزيارة رسمية إلى تركيا خلال الفترة المقبلة، لبحث سبل تقويم هذا الخلل التجاري، الذي يُعزى بشكل رئيسي إلى ارتفاع واردات المغرب من الأقمشة والمنسوجات التركية.
وأكد المصدر ذاته أن الوزير ناقش بشكل مفصل تطورات الميزان التجاري بين الرباط وأنقرة، مع التركيز على اتخاذ إجراءات عملية لتقليص الفارق الكبير في المبادلات التجارية، والذي بلغ في العام الماضي ما يعادل ثلاث مليارات دولار (حوالي 30 مليار درهم)، علماً أن تركيا تُعد سادس أكبر شريك تجاري للمملكة.
♦خطوات المغرب نحو مراجعة الاتفاقية
أكد المحلل الاقتصادي علي الغنبوري، أن المبادلات التجارية بين المغرب وتركيا تشكل محوراً استراتيجياً بالغ الأهمية في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة تتمثل في العجز التجاري المزمن لصالح أنقرة.
وقال الغنبوري في تصريح لجريدة “شفاف”، إن ارتفاع العجز التجاري الإجمالي للمغرب بنسبة 22.8% خلال الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2025، ليصل إلى 109 مليارات درهم (نحو 12 مليار دولار)، فيما سجّل سنة 2024 زيادة بنسبة 7%، مستقراً عند 306 مليارات درهم، يعد ثالث أكبر عجز للمغرب بعد الولايات المتحدة والصين.
وأشار المتحدث إلى أن هذا العجز تفاقم ليتجاوز 30 مليار درهم حالياً، مما يجعل إعادة تقييم اتفاقية التبادل الحر الموقعة عام 2004 ضرورة ملحة لتحقيق توازن اقتصادي يخدم مصالح المغرب.
وأضاف أن اتفاقية التبادل الحر، الموقعة سنة 2004، رغم خضوعها لتعديلات قبل خمس سنوات، تم بموجبها فرض رسوم جمركية بنسبة 90% على واردات الملابس والمنسوجات التركية، إلا أن السوق المغربية لا تزال تستورد كميات ضخمة من هذه المنتجات، لتغطية الطلب المتزايد في قطاع صناعة الملابس الجاهزة
وأبرز أن هذا الاختلال التجاري ليس وليد الصدفة، بل يعكس تراكمات هيكلية في العلاقات التجارية بين البلدين، حيث لم تحقق الاتفاقية الحالية التوازن المطلوب بسبب ضعف الصادرات المغربية مقارنة بالواردات التركية.
وأوضح أن المغرب يسعى اليوم، من خلال استراتيجية اقتصادية طموحة، إلى تصحيح هذا الوضع عبر إعادة صياغة الاتفاقية بما يتماشى مع مصالحه الاقتصادية، مع التركيز على جذب الاستثمارات التركية إلى المغرب وتوطين الصناعات بدلاً من الاعتماد الكلي على الواردات.
وكشف الغنبوري أن الزيارة التي سيقوم بها المسؤول عن التجارة الخارجية، عمر حجيرة، إلى أنقرة لمناقشة مراجعة اتفاقية التبادل الحر مع الجانب التركي. تهدف إلى تحقيق توازن تجاري يعزز المصالح الاقتصادية للمملكة، مع الحفاظ على العلاقات التجارية المتينة مع تركيا.
وشدد على أن المغرب لا ينوي قطع هذه العلاقات، بل يسعى إلى إعادة توجيهها نحو شراكة أكثر عدالة تقوم على مبدأ “رابح-رابح”، من خلال تشجيع الاستثمارات التركية في قطاعات استراتيجية مثل النسيج، المنسوجات، والصناعات التحويلية.
♦الاختلال التجاري وجذب الاستثمارات التركية
أرجع الغنبوري أسباب فشل اتفاقية التبادل الحر الحالية في تحقيق التوازن إلى تأخر المغرب في تبني سياسات صناعية موجهة نحو التصدير خلال العقود الماضية، مما جعل الصادرات المغربية إلى تركيا محدودة مقارنة بالواردات التركية.
وأظهر أن تركيا استفادت من هذه الاتفاقية بشكل أكبر بفضل قدرتها على تصدير منتجات متنوعة بأسعار تنافسية، في حين لم يتمكن المغرب من الاستفادة بنفس الدرجة بسبب ضعف تنافسية بعض القطاعات الصناعية.
وأضاف أن المغرب يعمل اليوم على تصحيح هذا الوضع من خلال استراتيجية اقتصادية شاملة تركز على تعزيز الصناعة الوطنية وتحسين قدراتها التصديرية.
وتابع أن المملكة تسعى إلى تحويل اقتصادها نحو نموذج قائم على الإنتاج الصناعي، مع وضع شروط جديدة في التعاون التجاري تحمي المنتجات المحلية وتقلص العجز التجاري.
وشدد الغنبوري فيما يتعلق بقدرة المغرب على جذب استثمارات تركية على أهمية توطين الصناعات التركية في المغرب كبديل عن الواردات.
وأعطى المحلل الاقتصادي مثالاً بقطاع النسيج، حيث دعا إلى إنتاج منتجات العلامات التجارية العالمية، مثل تلك التي تقدمها شركات مثل “إل سي وايكي”، داخل المغرب، لخلق فرص عمل محلية وتقليص العجز التجاري.
وأردف أن هذا التوطين سيسمح لتركيا بالاستفادة من السوق المغربية والإفريقية، مع دعم الاقتصاد المغربي من خلال خلق قيمة مضافة محلية.
وأبرز الغنبوري أن المغرب يمتلك مقومات تجعله وجهة جذابة للاستثمارات التركية، بما في ذلك بنية تحتية متطورة تشمل ميناء طنجة المتوسط، شبكة طرق وسكك حديدية متكاملة، ومناطق صناعية مجهزة بمعايير عالمية في مدن مثل القنيطرة وطنجة. مشيرا إلى توفر يد عاملة مؤهلة بأجور تنافسية، إلى جانب مناخ الأعمال المشجع الذي يتميز بالاستقرار السياسي والاقتصادي.
واعتبر أن هذه العوامل، إلى جانب الموقع الجغرافي الاستراتيجي للمغرب كبوابة إلى إفريقيا، تجعل المملكة شريكاً مثالياً لتركيا في تحقيق شراكة اقتصادية متوازنة.
♦آفاق المفاوضات مع تركيا
أبدى الغنبوري تفاؤلاً كبيراً حول إمكانية نجاح المغرب في مراجعة اتفاقية التبادل الحر بين البلدين، مستنداً إلى العلاقات التاريخية والمتينة التي تجمع البلدين.
وأكد أن المغرب وتركيا يرتبطان بعلاقات متجذرة في التاريخ والثقافة، مما يشكل أرضية صلبة للحوار والتفاهم. مضيفا أن المغرب تحول إلى لاعب اقتصادي رئيسي على المستويين الإقليمي والقاري، بفضل أكثر من 1000 اتفاقية شراكة مع دول إفريقية، مما يجعله بوابة استراتيجية للسوق الإفريقية التي تضم أكثر من مليار نسمة.
واعتبر الغنبوري أن من مصلحة تركيا بناء شراكة اقتصادية متوازنة مع المغرب، ليس فقط للوصول إلى السوق المغربية، بل أيضاً للاستفادة من دوره كمنصة للتوسع في إفريقيا.
وأورد الغنبوري إلى أن المغرب لا يطالب بما هو مستحيل، بل يسعى إلى إرساء منطق “رابح-رابح” يضمن استفادة الطرفين من العلاقات التجارية. ومؤكدا على أن الحوار المتبادل بين الرباط وأنقرة سيؤدي إلى صياغة رؤية جديدة للتعاون الاقتصادي، تعتمد على التوازن والعدالة.
♦رؤية المغرب الاقتصادية
في سياق متصل، أشاد الغنبوري بالرؤية الاقتصادية الطموحة التي يتبناها المغرب، والتي جعلته وجهة مفضلة للاستثمارات الأجنبية. مشيرا إلى أن المملكة نجحت في تحويل نفسها إلى منصة صناعية رائدة بفضل استراتيجية طويلة الأمد استندت إلى تحسين البنية التحتية، تبني قوانين محفزة، وتطوير التكوين المهني لتأهيل يد عاملة قادرة على تلبية متطلبات الصناعات المتقدمة. ومؤكدا أن هذه الرؤية، التي تجسدت في إرادة سياسية قوية، ساهمت في تعزيز ثقة المستثمرين الدوليين في الاقتصاد المغربي.
ودعا الغنبوري إلى تعزيز الجهود المغربية في مراجعة الاتفاقيات التجارية، بما في ذلك اتفاقية التبادل الحر مع تركيا، لضمان تحقيق توازن اقتصادي يدعم التنمية المستدامة.
وأكد أن المغرب، بفضل موقعه الاستراتيجي، بنيته التحتية المتطورة، وثرواته الطبيعية، أصبح قوة اقتصادية صاعدة قادرة على قيادة التحول نحو اقتصاد عالمي مستدام.
وخلص إلى أن نجاح المغرب في تحقيق شراكات اقتصادية متوازنة، سواء مع تركيا أو غيرها، يعكس رؤية استراتيجية واضحة تهدف إلى ترسيخ مكانته كمركز اقتصادي إقليمي وعالمي.

