في عصر يتسم بسرعة التقدم التكنولوجي والتحولات الرقمية، يظهر الذكاء الاصطناعي كأداة محورية لإعادة تشكيل الاقتصاد والمجتمع في العالم أجمع، وفي هذا السياق، يتطلع المغرب، بقيادة الملك محمد السادس، إلى ترسيخ مكانة إفريقيا كفاعل رئيسي في الحكامة العالمية للذكاء الاصطناعي، بما يخدم التنمية المستدامة ويعزز السلم والأمن في القارة، حيث دعا المغرب إلى نموذج إفريقي متميز يرتكز على ذكاء اصطناعي أخلاقي ومسؤول، ينبع من احتياجات القارة ومواردها ويهدف إلى تحسين حياة شعوبها.
ووفق ما ذكره ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، في كلمة له الأسبوع الماضي، أمام الاجتماع الوزاري لمجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي، فإن رؤية المغرب تتجلى في مقترحات طموحة ومبتكرة، تشمل إنشاء صندوق إفريقي للذكاء الاصطناعي، وإطلاق استراتيجية لجمع البيانات وتثمينها، وتطوير نخبة إفريقية قادرة على قيادة هذا التحول الرقمي، وتأتي هذه الخطوات في وقت تحتاج فيه إفريقيا إلى مواجهة تحديات هيكلية، مثل ضعف البنية التحتية الرقمية، والافتقار إلى الكفاءات المتخصصة.
دعا السيد الوزير ناصر بوريطة، اليوم، أمام الاجتماع الوزاري لمجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي، حول موضوع “الذكاء الاصطناعي وتأثيره على السلم والأمن والحكامة في إفريقيا”، إلى ذكاء اصطناعي إفريقي أخلاقي ومسؤول ومفيد وسيادي
????https://t.co/P3gy126JuI pic.twitter.com/4zyNFpdSrG— الدبلوماسية المغربية ???????? (@MarocDiplo_AR) March 20, 2025
♦ المغرب وصندوق الذكاء الاصطناعي
يشير بوبكر أنغير، الباحث في العلوم السياسية وتاريخ العلاقات الدولية، إلى أن فكرة إنشاء صندوق افريقي للذكاء الاصطناعي وإطلاق استراتيجية لجمع البيانات وتثمينها يدخل ضمن المبادرات الخلاقة التي يتبناها المغرب ويريد من خلالها الإسهام الفعلي في تطوير وعي الأفارقة بالتحديات التي تعترضهم في المستقبل أمام الهجمة التقنية التي لا ترحم الدول المتأخرة تكنولوجيا ورقميا.
وقال أنغير في تصريح لجريدة “شفاف”، إن التقدم التكنولوجي الذي يعرفه العالم والاعتماد أكثر على الذكاء الاصطناعي في العالم ولدى أجيال المستقبل يطرح تحديات كبرى أمام الدول الافريقية؛ من حيث ضرورة تطوير نظم التعليم والنظم الإدارية، وسيؤثر كذلك على الجانب القيمي والعلاقات البينية بين الدول وبين شعوبها، موضحا أن ذلك دفع بالمغرب لطرح فكرة إنشاء صندوق افريقي للذكاء الاصطناعي.
وأوضح أن الرباط تسعى لكي لا تكون إفريقيا على هامش التاريخ، وألا تتعمق عزلة القارة أمام الزحف التكنولوجي، مبرزا أن المغرب بقيادة الملك محمد السادس له نظرة استشرافية مبنية على ضرورة تأهيل الموارد البشرية الإفريقية، وإيجاد بنية تحتية ملائمة لاستقبال الذكاء الاصطناعي ومواجهة تحدياته بكل مسؤولية واقتدار.
وأبرز أن مثل هذه المبادرات ستحتاج تمويلات مباشرة أو عبر الشراكات الدولي، موضحا أنه لذلك اقترح المغرب هذا الصندوق الإفريقي لضمان تمويلات مشاريع التأهيل والتطوير وتعميم الرقمنة وإصلاح منظومات التربية والتكوين؛ في إطار رؤية شمولية تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة وبلوغ الأهداف الإنمائية للأمم المتحدة وضمان انخراط الأجيال الإفريقية المقبلة في صلب قضايا العصر.
♦ رسائل الرباط إلى الشركاء الدوليين
يبرز بوبكر أنغير أن المقترحات المغربية الى الشركاء الدوليين والمؤسسات العالمية بخصوص رؤية الرباط لمستقبل الذكاء الاصطناعي تحمل عدة رسائل؛ منها أن المغرب كقوة إقليمية مضطلع بدوره كاملا في تأهيل شعوب القارة الإفريقية لمواجهة كل التحديات المستقبلية والاستعداد الجدي لدخول الدول الإفريقية ضمن المنظومة الدولية وهي مسلحة بقدرات علمية وتقنية محترمة وقادرة على التنافسية الدولية.
وأردف الباحث في العلوم السياسية وتاريخ العلاقات الدولية، أن هيمنة الذكاء الاصطناعي في كل مناحي الحياة في العالم يطرح فرصا حقيقية في تنمية الشعوب الإفريقية، وذلك إذا ما استطاعت بوحدتها ويقظة حكوماتها الاستفادة منه، كما يطرح عدة تهديدات تتعلق بالقيم الجماعية وبتشعب الإشكاليات التي تتولد عنه؛ ومنها الجريمة العابرة للقارات وكذا التفاوتات الكبيرة بين أصقاع العالم، فيما يتعلق بظروف كل بلد.
ولفت إلى أن المغرب يسعى جاهدا لحل الإشكالات الإفريقية المطروحة مثل النزاعات والتفرقة السياسية للانكباب الفعلي على التنمية المستدامة وربح رهانات تنمية الشعوب الإفريقية، مبرزا أن الرسالة الثانية التي يريد المغرب إيصالها إلى المنتظم الدولي مفادها أن القارة الإفريقية بطاقاتها الخلاقة ومواردها البشرية وموقعها الجغرافي لن تكون بمعزل عن الجهود الدولية لاستثمار الطفرة التكنولوجية التي يعيشها العالم والتي يعتبر الذكاء الاصطناعي أحد مظاهرها.
وتابع أن الرباط تريد من خلال مبادراتها؛ إظهار أن إفريقيا مستعدة للإسهام الجدي في كل المبادرات الهادفة لأنسنة وتخليق السياسات العالمية التي تهدف إلى إيجاد الحلول المبتكرة لإشكاليات التنمية والديمقراطية وحقوق الانسان، موضحا أن هذا الإسهام الإفريقي بحاجة لدعم مالي وتقني دولي، وذلك بدون تدخل ولا فرض إملاءات على الدول الإفريقية التي هي اليوم واعية ومدركة بالتحديات أكثر مما مضى، مشددا على أن رسالة المغرب الأهم تتمثل في أن إفريقيا بحاجة لدعم دولي لكن في إطار احترام ذكاء الأفارقة واحترام سيادة الدول ومصائرها.
♦ التعاون الإقليمي والتحديات المطروحة
يشير بوبكر أنغير إلى أن المغرب واع كل الوعي بالمنافع الكبرى للتكنولوجيا والتطور التقني والعلمي ونتائجها الإيجابية على جودة الحياة وعلى تسهيل حياة البشر، مبرزا أنه مدرك أكثر للمخاطر الكبرى التي يمكن أن يكون للتطور التكنولوجي وللذكاء الاصطناعي إذا ما تم استغلاله لتخريب الدول والإساءة لحقوق الإنسان والشعوب؛ عبر التسلح الدقيق غير المقنن وعبر استغلاله من قبل الجماعات الإرهابية والمتطرفة وبعض الدول الديكتاتورية التي تستغل الثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي للإضرار بالإنسان وبالبيئة.
وأكد على أن ما سبق؛ يجعل من دعوة المغرب إلى ذكاء اصطناعي وثورة رقمية وعلمية مبنية على الأخلاق والقيم الإنسانية الفضلى أمر ضروري ومجهود يجب القيام به من أجل ألا تنفلت التكنولوجيا والثورة الرقمية من عقالها وترهن حياة الناس ويتم المس بالحياة الخاصة للشعوب؛ ويهدد ثقافاتهم وممتلكاتهم الرمزية.
واستطرد أن الاستراتيجية المغربية في ولوج القارة الإفريقية لمرحلة الذكاء الاصطناعي والاستفادة من مكتسباته وفتوحاته العلمية؛ تندرج في إطار التوفيق الضروري بين مكاسب التقدم التكنولوجي والعلمي الهائل، وبين مخاطر استيلاب التكنولوجيا للذات الإنسانية وسيطرتها على العقول؛ بما يجعل الإنسان فاقدا للبوصلة القيمية وللنوازع الإنسانية التي تجعله إنسانا بمعنى الكلمة، لافتا إلى أن التحدي الأكبر المطروح اليوم هو كيفية الاستفادة من التكنولوجيا بشكل لا يكون الأفراد والجماعات من عبيدها وخاضعين لأهوائها.
وأوضح أن التحديات العالمية التي يشهدها العالم من حيث اتساع الهوة بين شمال موحد مصلحيا على الأقل ومتطور جدا ومحتكر للتكنولوجيا ولكل أسباب التقدم الإنساني، وجنوب ما يزال يستحدث الخطى للحاق بالركب العلمي والتكنولوجي، وما يزال يتخبط في مشاكل كثيرة منها الحروب والفتن والأوبئة ومخلفات التقسيمات الاستعمارية، التي رسمت عداوات حدودية كثيرة وزرعتها في أحشاء دول الجنوب، بالإضافة الى عدم انسجام برامج التعليم والتكوين مع متطلبات العصر.
وشدد على أن هذه التحديات تجعل المغرب واع؛ بل منخرط بقوة في استراتيجية إفريقية تقوم على عدد من العناصر، أولها إذكاء روح الوحدة الإفريقية وتشجيع التجمعات الإفريقية؛ ومنها حث الاتحاد الإفريقي على تشكيل لجان ومنظمات وصناديق متخصصة في حل الإشكالات الاقتصادية والتنموية، وعدم تغليب المقاربات السياسوية التي لم تجني منها القارة الإفريقية سوى الويلات ومزيد من التخلف والانقسام.
وأضاف أن استراتيجية إحداث صندوق للذكاء الاصطناعي، تأتي ضمن مبادرات أخرى تهدف الى تنسيق جهود الدول الإفريقية من أجل انخراط شعوب ودول القارة في الحكامة الدولية ومتطلبات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وربح رهان النمو الاقتصادي الذي يعتبر مسألة أساسية لإعداد مستقبل مشرق للأجيال الافريقية المقبلة.
ونبه إلى أن ما سبق، يجعل المغرب يسارع الزمن من أجل حل الصراعات الإفريقية وكذا الإشكاليات القائمة بين الدول الافريقية بالطرق السلمية، ونهج دبلوماسية فاعلة تقوم على تثمين المتفق عليه مع الدول وتجنب إثارة النزاعات والخلافات، مشيرا إلى أن القارة الإفريقية لها مؤهلات حقيقية وموارد هامة وفرص هائلة للتطور العلمي في جميع الأصعدة وفي تسيد الاقتصاد الدولي.
سباق أوروبي على تزويد المغرب بغواصتين عسكريتين.. لماذا تراهن المملكة على هذا النوع من السلاح؟
ولفت إلى أنه للأسف ما يزال ينقص إفريقيا العمل الوحدوي المشترك، وما تزال تعاني من تبعات التقسيم الدولي للعمل التي يجعلها بعيدة عن تحقيق متطلبات الاقتصادات النامية؛ بفعل انتشار الصراعات والاقتتالات الداخلية وتزايد حدة الانقلابات العسكرية وانحسار المشاركة السياسية المدنية للمواطنين، وهجرة الأدمغة والرأسمال البشري نحو الدول الغربية، مما يطرح إشكالات الحكامة والدمقرطة التي هي أوراش مفتوحة لابد من كسب رهانات فتحها.
وذكر الباحث في العلوم السياسية وتاريخ العلاقات الدولية، أن إفريقيا قطعت أشواطًا مهمة على صعيد التنمية وتحقيق بعض أهداف التنمية المستدامة، إلا أن المجهودات المطلوبة والتحديات الكبرى التي تنتظر القارة الإفريقية يجعل العمل الوحدوي التكاملي السيادي مسألة ضرورية؛ بل هي استعجالية لكي لا تفلت الشعوب الإفريقية موعدها مع قطار التاريخ الراهن.
♦ الريادة للمغرب
يبرز بوبكر أنغير أن المغرب بحكم موقعه الاستراتيجي كبلد يتنسم هواء التقدم التكنولوجي والثورة العلمية الكبرى من شماله، وينشد نقل العلم والتكنولوجيا ومنافعها إلى جنوبه وحاضنته الإفريقية؛ يجعل منه بلدًا محكوم عليه أن يقوم بأدوار تواصلية بين الشمال والجنوب وأدوارًا كبرى لحفظ الأمن والاستقرار في كلا المجالين.
وتابع أن المملكة المغربية كانت تاريخيا بلدا متنوعا ثقافيا، ومؤثرا سياسيا في كل الحقب التاريخية المختلفة، موضحا أن هذا الدور التاريخي المتجدد للمغرب يلزم عليه قيادة قاطرة التقدم الإفريقي والعمل على بلورة وعي إفريقي تاريخي بأهمية الوحدة الإفريقية، وبضرورة تجاوز التفاوت الحضاري الذي تعيشه القارة مقارنة بأوروبا وأمريكا.
المبادرة الأطلسية.. ما هي الأهداف والمكاسب وما سر غياب موريتانيا والسنغال عن اجتماع مراكش؟
ولفت إلى أن الرباط بطبيعة الحال لا تملك عصا سحرية أو إمكانيات اقتصادية كبرى تؤهلها لدعم إفريقيا ماليا واقتصاديا، لكنها تملك خبرة القرون في مجالات الاتصال البشري، ولها استراتيجيات اقتصادية مهمة، وحكمة وتبصر قيادته التاريخية المجسدة في الملك محمد السادس، الذي يصل الليل بالنهار من أجل تطوير القارة الافريقية وتجسيد عناصر الأخوة الإفريقية على أرض الواقع عبر الشراكات الاقتصادية والدبلوماسية الروحية وتصدير النموذج الديني المعتدل للمغرب الى كل أصقاع القارة الإفريقية.
وأكد على أن مداخل التأثير الإفريقي في المنظومة الدولية حسب الرؤية المغربية يقوم أولا على تطوير مهن التربية والتكوين، وثانيا على خلق جو سياسي ومناخ اقتصادي مستقر وملائم؛ مبني على الحكامة والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة وعلى سيادة البلدان، وثالثا على التكامل الاقتصادي والاجتماعي بين البلدان الإفريقية ومواجهة كل التحديات الدولية بروح جماعية مؤمنة بالمصير المشترك للقارة الإفريقية.